تنظيمات "الجهاد" الصهيونية

20 نوفمبر 2014

متطرفون يهود يقيمون طقوسهم عند حائط البراق في القدس(14أكتوبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

يتيح المشهد المقدسي الملتهب، الآن، الانصراف، ولو لبرهة، إلى قراءة أكثر عمقاً، تستبطن مستقبل الصراع مع إسرائيل، وربما مستقبل المشروع الصهيوني برمته في بلادنا، خصوصاً أنّ ثمة استشرافات كثيرة، تخلص إلى نتيجة لم تعد مفاجئة لدى أصحاب الدراسات المستقبلية، وهي تصبّ كلها في حقيقة تقول إن المشروع الصهيوني بدأ مرحلة تآكل وشيخوخة مبكرة، تؤذن بانهيارٍ ليس بعيداً، بفعل عوامل داخلية متسارعة، ولا يوجد في إسرائيل، الآن، قوة مؤثرة تستطيع وقف حالة التآكل هذه، في غياب حكماء صهيون الكبار، وسيطرة ما يسمى اليمين المتطرف، من لابسي القبعات الصغيرة التي تحجب الرؤية عن المخاطر الكبرى التي تنتظر هذا المشروع، في حال استمرت سيطرة وصبغ السياسة الإسرائيلية بصبغته، مباشرة عبر تعاظم قوته داخل دوائر صنع القرار، أو مراعاة هؤلاء الساسة والعسكريين خاطر الجمهور اليميني، وتدليك رغباته وشهواته، طمعاً بالفوز في الانتخابات، وحشد التأييد، ولو على حساب الثوابت الكبرى التي قامت عليها إسرائيل.

آباء الدولة الصهيونية الكبار كانوا من العلمانيين، وكانت اليهودية، بالنسبة لهم، أقرب ما تكون إلى "القومية"، لا الدين، لذا نحّوا جانب الدين جانباً، بل عملوا على تأجيل السؤال الجذري "من هو اليهودي" إلى آماد غير محددة، خوفاً من انفجار المشروع برمته، وسعياً إلى إضفاء صبغة علمانية بحتة على مشروعهم، فضلا عن الصبغات الاقتصادية و"الإنسانية" المدّعاة، واقتضى ذلك التحرش بالديمقراطية بادعائها، وإبداء الإيمان بحقوق الإنسان وما يقتضيه هذا من تغليف السياسة الصهيونية في تهويد الأرض بقوننة كاذبة، تنحو، باستمرار، لحفظ مصلحة اليهود، والحفاظ على حالة تسكين لوضع الأقلية العربية داخل الخط الأخضر، بما يضمن إخراجها من معادلة الصراع، وتجنب كل ما من شأنه استفزاز المشاعر الدينية لدى الفلسطينيين، وفي ما يتعلق بهذا الأمر، كان نوعاً من التابو، خشية توفير البيئة المناسبة لإشعال الحرب الدينية المفترضة، بين بضعة ملايين يهودي ومليار ونصف المليار مسلم في أصقاع الكوكب، وهذه الخشية، وإن بدت غير واقعية، وذرائعية أحياناً، إلا أنها ظلت هاجساً يسكن أعماق العقل الصهيوني الجمعي.

ما حدث، في السنوات الأخيرة، أن هيجان اليمين عصف بكل هذه التابوهات، والثوابت، وانطلقت شهواته إلى حرف مقود القيادة في إسرائيل نحو مناطق لم يكن "حكماء صهيون" يرتادونها، بعد أن احتل مكانهم "أغبياء صهيون"، وباتوا يتحكمون في سدة القيادة، وهؤلاء، على نحو أو آخر، ضمنوا تخريب كل فرص التسوية السياسية التي مرت بالمنطقة، وكانت قاب قوسين أو أدنى من النجاح، وليس المقام، هنا، مقام استعراض كل هذه الفرص، لكننا سنتوقف، ولو قليلاً، أمام آخر المبادرات الدولية التي أفشلها اليمين، وهي ما عرف بمبادرة وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، والتي كانت شبه منجزة، إلى أن تم تخريبها إسرائيلياً، بل تخريب واحدة من ثوابت إسرائيل الاستراتيجية، وهي النأي بالعلاقة الأميركية الإسرائيلية عن أي هزات خطيرة تلحق أذى حقيقي بها، وهو ما "نجحت" إدارة نتنياهو بفعله، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين الطرفين!

لقد عملت آلة الإعلام الإسرائيلي التي تعكس سيطرة الرؤية اليمينية على توجهات المجتمع الإسرائيلي على تخريب خطة كيرى، على نحو ممنهج، مع العلم أنها كانت تتضمن "نصراً" كبيراً للرؤية الإسرائيلية، وكان ثمة ضغط عربي ودولي على الفلسطينيين لقبولها، مع بعض عمليات التجميل غير الأساسية. وكانت خطة كيري، حسب الإعلام العبري، تضمن الإبقاء على جميع المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية، كما تنص على ضم المستوطنات الموجودة في التجمعات الاستيطانية الكبرى لإسرائيل، وتشمل: أرئيل، غوش عتصيون، جبل الخليل، وهي تضم حوالي 80% من المستوطنين. كما نصت على الإبقاء على جميع المستوطنات النائية التي تقع خارج التجمعات الكبرى ضمن "الشيء" الذي سيسمى "الدولة الفلسطينية" وكانت إحدى الأفكار التي درست آنذاك، تتعلق بتدشين قواعد عسكرية لتبقى في قلب الدولة الفلسطينية، لحراسة هذه البؤر، وفي ضوء هذا، ولأن خطة كيري طالبت الفلسطينيين بالتنازل عن غور الأردن والمستوطنات والقدس التي تقتطع 55% من مساحة الضفة الغربية، فإن ما كان سيتبقى من أراضٍ لإعلان الدولة الفلسطينية عليها لا يتجاوز 45% من الضفة  الغربية، إضافة إلى أن الخطة تضمنت "صياغات فضفاضة وعمومية"،
للتسهيل على قيادة السلطة الفلسطينية تمرير "التنازلات المؤلمة". وبالنسبة للعاصمة الفلسطينية، لم تكن القدس، بل في "القدس الكبرى"، أي في إحدى البلدات الفلسطينية المحيطة بالقدس، مثل أبو ديس. وبشأن بقية "التفاصيل" سيكون على الفلسطينيين الاعتراف بيهودية "إسرائيل"، بما يعني ضمناً التنازل عن حق العودة للاجئين الذين سيتم استيعابهم حيث هم، مع هذا "فجرت" القوى اليمينية في إسرائيل هذه الخطة، وربما حرقت آخر فرصة من فرص التسويات السياسية، وما أعقب هذا كما نعلم، توقف قطار التفاوض الذي استمر يتهادى عشرين عاماً بلا نتيجة، ما أفضى، على نحو أو آخر، إلى انسداد الأفق السياسي، وكان من نتيجة ذلك العدوان على غزة، وإشعال انتفاضة القدس الثالثة، وبعد أن تراجع الاهتمامان، العربي والدولي، بالقضية الفلسطينية لصالح قضية الإرهاب و"داعش"، ها هو اليمين الصهيوني، يعيد قضية فلسطين إلى صدارة نشرات الأخبار!

ما تفعله تنظيمات "الجهاد" الإسرائيلي، إن جاز التعبير، هو إبقاء شعلة القضية الفلسطينية، وصب الوقود عليها كلما خبت، مع أن الفرص التي وفرتها سنوات الخذلان العربي لإسرائيل لا مثيل لها، وكان يمكن لها أن تقلب طاولة الصراع، وتدخل فلسطين ومشروعات التحرر العربي من الاستبداد إلى نفق بلا نهايةٍ منظورة، فليس ثمة ظرف أنسب لإسرائيل من أن تكون عضواً كامل العضوية في الإقليم، وما كان يحلم به حكماء صهيون سابقاً، يبدده أغبياء صهيون الآن، وبمجانية، ويفوّتون على مشروعهم فرصاً ذهبية لفرض واقع جديد على الأجيال العربية، لن تكون قادرة على التخلص منه مئات السنوات، إلا أن غباء اليمين يوفر الفرصة لرعاية الثورة الفلسطينية، وإفشال كل من يحاول من القيادات الفلسطينية تبديد ما تبقى من فلسطين، والقبول بتسويات هزيلة، ستكلف الشعب الفلسطيني سنوات طويلة من المعاناة، إضافة إلى معاناته القائمة!

في المحصلة، نراهن، كعرب، على معسكر الرفض الصهيوني المتشدد، و"وطنيته" في إفشال كل خطط الإجهاز على ما بقي من أحلام الفلسطينيين، وإن بدا أنها ماضية، ولا شيء يقف في طريقها إلا هذه "الوطنية" الصهيونية، وما الإصرار على التحرش بالأقصى، من اليمين الصهيوني، إلا مثال ساطع على مدى فاعلية "الجهاد" الصهيوني، في إبقاء ذاكرة الدم عصية على النسيان!

A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن