تمّت إحالة المترجم للتأديب!

12 فبراير 2019
+ الخط -

في 8 ديسمبر 1989 نشرت مجلة (المصور) تقريراً صحفياً كتبه الأستاذ محمد الشاذلي، روى فيه وقائع عقد مجلس تأديب بجامعة الأزهر لأستاذ جامعي ارتكب جريمة شنيعة هي ترجمة رواية عن اللغة الإسبانية، وهو الدكتور حامد أبو أحمد المدرس بكلية اللغات والترجمة بالجامعة، والذي قرر رئيس جامعة الأزهر الدكتور عبد الفتاح الشيخ إحالته إلى مجلس تأديب "بشأن ما نسب إليه من الخروج على مقتضى الواجب والإخلال بالكرامة الوظيفية"، بعد أن قام بترجمة كتاب (من قتل باولو موليرو) تأليف ماريو فارجاس يوسا "بما يحويه من ألفاظ بذيئة تتعلق بوصف عورة المرأة وما يتضمنه من ألفاظ جنسية فاضحة بعيدة عن أي قيمة أدبية وتاريخية مما يسيئ إلى الأزهر وجامعته".

في حديثه مع محمد الشاذلي قال الدكتور حامد أبو أحمد إنه لم يخطر على باله إطلاقاً أن رواية يوسا ستثير كل هذه الضجة الغريبة، والتي لم تهتم بما قدمه الكاتب من رؤية عميقة للواقع الاجتماعي لبلده بيرو، "حيث يصبح الظلم هو القانون وتكون الجهالة هي الفردوس"، مؤكداً أنه لم يشعر بوجود ألفاظ خارجة في الرواية "لأسباب كثيرة من أهمها أن تربيتي منذ الطفولة أزهرية، وكنا ندرس ونحن في الصبا أشياء في الفقه الإسلامي تثير الخجل العنيف بمقياس هذه الأيام، فكانوا يدرسون لنا في الفصل مثل هذه العبارة: وإذا أدخل الآدمي مقدار حشفته من مقطوعها في فرج..، ثم يرتب عليها قواعد فقهية، وقرأت التراث أيضا وكنت أجد فيه عبارات ومشاهد كاملة لا نجد مثلها على الإطلاق في رواية يوسا، وأدلك على بعض الكتب التي حققها أزهريون مشهود لهم بالفضل وسعة العلم، مثل الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد الذي كان عالما من علماء الأزهر وعميد كلية اللغة العربية، من الكتب التي حققها كتاب (معاهد التنصيص للعباسي) اقرأ هذا الكتاب وانظر ماذا ورد فيه؟ اقرأ أيضاً كتاب (طوق الحمامة) للفقيه الظاهري الأكبر ابن حزم وكتاب (مثالب الوزيرين) لأبي حيان التوحيدي، ومحقق هذا الكتاب الدكتور ابراهيم الكيلاني سوري الجنسية وهو عالم فاضل قال في المقدمة: إنني لم أحذف العبارات والمشاهد الكثيرة الفاحشة والتي وردت في هذا الكتاب للحفاظ على الأمانة العلمية".

كانت رواية يوسا بترجمة حامد أبو أحمد قد صدرت عن الهيئة العامة للكتاب في فبراير 1988، وبعد حوالي 20 يوما من صدورها، هاجمتها الصفحة الثقافية لصحيفة (الشعب) التابعة لحزب العمل الذي كان قد تحالف مع الإخوان المسلمين في انتخابات 1987 ليسقط من اسمه توصيف (الاشتراكي) وتصبح صحيفته صوتاً عالياً لما كان يطلق عليه (التحالف الإسلامي). هب بعض الأدباء والمثقفين للدفاع عن الرواية، فدافع عنها نجيب محفوظ وقال إن النقد الأدبي هو صاحب السلطة الوحيد في هذا الموضوع، واتهم يوسف إدريس المهاجمين بالعته، وكرس جمال الغيطاني صفحة الأدب الأسبوعية بصحيفة الأخبار للدفاع عن الرواية طوال شهرين كاملين، ومع ذلك فقد لاحظ محمد الشاذلي أن جامعة الأزهر تجاهلت كل هذه الدفاعات من كبار الكتاب، ولم تهتم إلا بهجوم الصفحة الثقافية بصحيفة (الشعب).


في روايته لوقائع التحقيق الأزهري معه، قال الدكتور حامد أبو أحمد في حواره مع (المصور): "طلبتني جامعة الأزهر للتحقيق في أول مايو 88، وحقق معي المستشار القانوني للجامعة د. فؤاد النادي أستاذ بكلية الشريعة والقانون وأول كلمة واجهني به قوله على سبيل المزاح: بقى يا راجل تضيع وقتك في الكلام الفارغ ده، ورددت عليه على سبيل المزاح أيضا: والله يا أخي أنا عملت حاجة ممكن تنتفع بها الأجيال من بعدي، أما أنت فتضيع وقتك وجهدك في التحقيق في قضايا لا معنى لها تحفظ كلها في الأدراج. وأثناء التحقيق سألني أحد الجالسين: يا أخي تترجم لكافر؟ فوجدتني أرد عليه بشكل فوري: يا أخي ولماذا تركب أنت سيارة صنعها كافر؟"، ثم أضاف الدكتور حامد مقرراً فتح النار على قيادات الأزهر: "د. فؤاد النادي من الدخلاء على الأزهر نتيجة التطوير وبالتالي فهو بعيد تماما عن الروح الأزهرية الحقيقية فمبلغ معلوماتي عنه أنه من خريجي جامعة عين شمس والتحق بالأزهر عندما بدأت التوسعات في الكليات... ومن الغريب أن مسئولي الأزهر يتوقفون عند بعض الألفاظ في رواية في الوقت الذي يتركون فيه الجامعة تتخبط في الإهمال والفوضى والتسيب، أطالب الصحافة بأن تذهب إلى كلية اللغات والترجمة لترى هل هناك دراسة منتظمة؟ وهل يواظب الأساتذة على حضور محاضراتهم؟ وهل قاعات الدرس مؤهلة للدرس؟ وهل هناك إدارات حازمة في الكليات تشرف على سير الدراسة؟ ناهيك عن الأجهزة المستوردة بملايين الجنيهات والتي تظل في صناديقها حتى تتعفن أو تأكلها الفئران. فهل انتبه المسئولون في الجامعة لكل هذه الأمور حتى لم يعد لديهم إلا أن يتفرغوا لرواية من قتل موليرو ويبحثوا فيها عن بعض الألفاظ ناسين أو متناسين أن الجنس لا يقصد لذاته أبدا والا لاعتبرنا التشريح أو دراسة الجهاز التناسلي وغيره جنسا؟ وإنما يكون الجنس عندما تكون هناك إثارة مقصودة، وكل النقاد والأدباء الذين قرأوا هذه الرواية لم يلفت نظرهم أن فيها عبارات جنسية، وأعطيتها وهي مخطوطة لبعض الإخوة من الأدباء كي يقرؤوها ولم يلفت نظر أحد أن فيها ألفاظا جنسية، ثم إن الرواية صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب وأنا مهمتي كانت هي الترجمة ولو أن الهيئة رأت فيها جنسا لمنعت صدورها".

في محضر التحقيق الذي أجرته جامعة الأزهر مع المترجم د. حامد أبو أحمد جاءت العبارات الآتية التي نشرها محمد الشاذلي في تقريره المهم: "وبسؤاله عن قوله فيما ورد في هذا المصنف من عبارات جنسية لا تلائم صفته كعضو هيئة تدريس بجامعة الأزهر، أجاب بأنها تلائم صفته كأزهري فلا يعتقد أنها تتناقض معه في شيء لأن الأزهر كان وسيظل صنو الاستنارة، وكان أسلافنا كذلك أما التطرف الحالي فهو أمر دخيل على طبيعة الحياة في العالم الإسلامي. وبسؤاله أنه بمطابقة الكتاب تبين أنه يحوي بعض ألفاظ خارجة لا تليق بأن يقوم بترجمتها، فأجاب بأن هذا الكتاب فيه بالفعل ألفاظ سيراعي حذفها في الطبعة القادمة إن شاء الله وهذه الألفاظ خارجة عن البناء الفني للرواية ولذلك فإن حذفها لن يؤثر في شيئ. وبسؤاله عن السبب في عدم حذفها ابتداء، أجاب بأنه في الواقع تصور أنه عمل متكامل وأن الترجمة يجب أن يحافظ على حرفيتها خاصة أن كل الأعمال المترجمة كذلك بل أن القصص التي تنشر حاليا في مصر والعالم العربي مليئة بكثير من هذا بل أكثر. وبسؤاله عما هو منسوب إليه من ترجمة كتاب لا يليق أن يترجمه أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر فضلا عن كونه أزهري، أجاب بأنه حينما قام بترجمة هذا الكتاب تخيره باعتباره من الأدب العالمي ولم يكن المقصود من الترجمة إثارة جنسية، وإنما كان الهدف منه بيان بعض المشاكل التي يعاني منها العالم الثالث، وهذه الألفاظ ليست من تأليفه وإنما تنسب إلى صاحبها وأن هذه قضية مطروحة الآن على صفحات الجرائد، وقدّم بعض قصاصات الصحف التي تناولت الموضوع وتدافع عن حرية التأليف".

بعد أن تم التحقيق مع الدكتور حامد أبو أحمد، استجاب رئيس جامعة الأزهر لاقتراح الدكتور فؤاد النادي بإحالته إلى مجلس تأديب في 8 مايو 1988، لكن القرار لم ينفذ إلا بعد مرور عام ونصف، حيث أخطر الدكتور حامد أنه مطلوب لمجلس تأديب بتاريخ 13 نوفمبر 1989، ثم تأجل المجلس إلى تاريخ 8 يناير 1990، وهو ما جعل الدكتور حامد يستغرب إصرار جامعته على ملاحقته بهذا الشكل، مؤكداً أن الأمر يتجاوز مسألة الرواية في ظنه، وأنه يتعرض لاستهداف شخصي، لأنه كان يطالب بإصلاح التعليم في الأزهر وكتب مقالات في هذا الصدد وقابل شيخ الأزهر ورئيس الجامعة لأن جامعة الأزهر تتهرأ يوما بعد يوم، مضيفاً: " هم يرون أني خرجت على مقتضى الواجب وأخللت بكرامة الوظيفة، إنهم يرتبون الأمر على قرار اتهام من أعجب ما رأيت في حياتي، وكان أجدر بالمستشار القانوني بدلا من هذه الأحكام القاطعة التي لا تستند إلى دليل أو منطق أو ثقافة أو فكر، أن يعطى الشيء لأصحابه، ويحول الرواية المترجمة إلى كلية اللغة العربية وأساتذتها بالنسبة للأزهر هم أهل الاختصاص في هذا الموضوع"، وخاتماً حديثه مع محمد الشاذلي بعبارات مريرة قال فيها: "نحن نعيش حاليا قمة التخلف الحضاري ولا أتصور أن الضعف الثقافي وضعف الوعي بلغ مثل هذا المبلغ في أي مرحلة من مراحل تاريخنا، وأظن أن مثل هذه الأشياء مقصودة من قوى أجنبية، لا تريد أن نتقدم أبداً، فبدلاً من أن ننشغل بأمهات المسائل مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء حضارة عملاقة مثلما فعلنا قديماً، يشغلوننا حاليا بتوافه المسائل مثل فوائد البنوك وهل هي حرام أم حلال؟ والفن حرام أم حلال؟".

للأسف، لم يكن الدكتور حامد أبو أحمد آخر المثقفين المصريين المستهدفين والمهددين في حريتهم ورزقهم، بسبب ترجمة رواية أو تأليف كتاب، وإذا كان العمر قد امتد به بعد انتهاء أزمته، ليرى عدة أزمات تعرض لها زملاء له من المؤلفين والمترجمين، فيدرك ربما أن القوى الأجنبية لم تكن مشغولة إلى هذه الدرجة بنا، لأننا كفيلون بأنفسنا، وقادرون على أن نواصل غرس أقدامنا في التخلف الحضاري، فالمؤسف أن غيره لم يدرك ذلك بعد، والأكثر أسفاً أن من سيعيش أزمة شبيهة لأزمة الدكتور حامد في هذه الأيام النحسة التي نعيشها، لن يجد حتى ذلك التضامن الذي لقيه الدكتور حامد في تلك السنوات التي كان يظن أنها تمثل قمة التخلف الحضاري، قبل أن تثبت الأيام أن قمة التخلف مثل قاع الظلم، ليس لهما في بلادنا نهاية.

...

مائة عام من الحنين إلى البطاطس!
إلى جوار صورة رديئة الطباعة تُظهر فتاة أوروبية ترتدي حول رقبتها عُقداً من البطاطس، نشرت مجلة (اللطائف المصورة) في عددها الصادر بتاريخ 30 إبريل 1917 تعليقاً يقول: "قالوا أن البطاطس غلا ثمنه في اوروبا حتى صار من يقتينه يعد من الاغنياء واهل اليسر، وقد فتق لهذه الفتاة الفرنسوية الفقيرة ان تتخذ من البطاطس عقداً وأساور رمزاً إلى ندرة وجود هذا الصنف وغلوه الفاحش".


اتخذت المجلة من الصورة تكئة لإثارة أزمة البطاطس في مصر، التي لم تكن الحرب العالمية العظمى تدور على أرضها، كما كان الحال في أوروبا، لتبدأ المجلة حديثها بعبارة "ولما كان الشيء بالشيء يذكر"، لكنها في الوقت نفسه لم تشأ أن تتحدث عن موضوع اختفاء البطاطس بجدية، تحاشياً للصدام مع السلطات التي بالغت في تشديد الرقابة على الصحف وقت الحرب، فقررت أن تثير الموضوع بشكل ساخر قالت فيه:

"كانت صاحبة المادة النشوية وإحدى أمهات المواد الغذائية المعتبرة عند البقالين والمحترمة عند الآكلين ـ البطاطس الكريمة غائبة عن مصر أياماً، فما قدّمها طاهٍ على مائدة ولا رآها آكل في مأدبة، ولكن بقي ذكرها على الألسنة وصداها في الآنية، ولما كاد الرجاء يُقطع من وجودها في هذه الأيام حتى يظهر المحصول الجديد، إذا بها تشرق على سماء هذا القطر وترسو مراكب الخارج على شواطئ مصر مملوءة بأكياس البطاطس، فكان لهذا النبأ تأثير عظيم في النفوس، وقد تألف جمع من محبيها لاقامة حفلة تكريم لها ولنا الشرف إن كنا ضمن المدعوين.

أقيمت حفلة لتكريم البطاطس، فأجاب الدعوة أعيان البقالين ووجهاء الخضرية وكبار موظفي المطاعم الافرنكية والعربية ومندوب سام عن الجالية الايطالية وعضو من لجنة الآثار العربية ـ ولعل البطاطس اعتبرت من الآثار القديمة بعد احتجابها الأخير ـ ولم يحضر أحد عن وزارة الزراعة ولا عن لجنة التجارة والصناعة لعدم اعترافهم رسمياً لأهمية البطاطس، أو لاعتقادهم بأن أوان زراعتها قد مضى.

وقد وضعت البطاطس في اطباق محلاة بماء الذهب وقد أكسبتها الصلصة لوناً بديعاً، والتفت حول الاطباق الملاعق والشوك والسكاكين وقطع الخبز وحيضان السلطة واوعية المستردة فما انتظم الجميع حول المائدة المنصوبة حتى اعلن افتتاح الحفلة وخطب الرئيس مؤهلا بالبطاطس ومبدياً عطف الرأي العام عليها والتفافهم حولها لتكريمها، ومن ثم أخذت الشوك والسكاكين تعبث في الاطباق، وبدأ الأكل العام حتى فرغت الأوعية بما فيها ثم خرج الكل بعد غسل ايديهم شاكرين للبطاطس عودتها، داعين لها بعدم البقاء".

ولا زال النيل يجري.

...

وختاماً مع الكاريكاتير:
في زاويته الأسبوعية بمجلة (المصور) التي تالق فيها بدءاً منذ منتصف الستينات نشر الفنان الكبير بهجت عثمان هذه الكاريكاتيرات:












605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.