تمويل عبودية ما بعد الحداثة

11 اغسطس 2016

(ضياء العزاوي)

+ الخط -
في الماضي، أيام كانت العبودية في صورتها البدائية، من حيث استرقاق البشر، وتشغيلهم مدى الحياة في خدمة السيد، كان واضحاً أن العبد ليس مضطراً لتمويل عبوديته، فما عليه سوى العمل، مقابل حمايته وإطعامه وإيوائه من سيده. عبودية "الدولة الحديثة!" في دول العالم الثالث، والثاني أيضاً، مختلفة تماماً، ويبدو أنها أشدّ مضاءً وظلماً من العبودية البدائية تلك، حيث كانت بسيطةً وغير معقدة، وغير ملتبسة، فالعبد عبد، وليس لديه أي أوهام بأنه "سيد" وحر، وفي وسعه أن يتصرّف بناءً على هذا الاعتبار الكاذب، وهو ليس أكثر من "برغي" صغير في آلة ضخمة، يدور حيث تدور، ولا يكاد يملك من أمره شيئاً، وإن نودي: "السيد" فلان.
عبيد ما بعد الحداثة في بلاد العالم الثالث، والثاني ربما، مكلفون بالكامل بتمويل تكاليف عبوديتهم، وهذا هو الجانب الأكثر فداحةً، مما لم يكن العبيد الكلاسيكيون مكلفين به، كي يتمتع السيد ليس بلعق عرق جبينهم، ومص دمائهم، بل عليهم، مثلاً، أن يزوّدوا زبانيته بالميزانية اللازمة لشراء أدوات تعذيبهم، وتوفير ما يكفي من بصاق في أفواه هؤلاء الزبانية لتكريمهم بالبصق عليهم، وما يكفي من قاموس البذاءة لإغراقهم بالشتائم، وتلميع بساطير الجلادين جيداً، كي يستمتعوا فيما بعد بتلويثها بدمائهم. وبعد هذا، بعد تجرّع كل طقوس الإهانة والبطش وإهدار الكرامة، على العبيد أن يرسلوا برقيات التأييد للسيد، وطلب مزيدٍ من أساليب القهر وسلب الحرية، ومصادرة الفرح، لأن العلم الحديث دائم التطور والنمو، وهو لا يتوقف عن ابتداع طرق التعذيب النفسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى "التربوي".
نعم ثمّة تعذيبٌ تربوي أيضاً، كإلزام العبيد الصغار بتأدية امتحان الثانوية العامة، وتوتير ملايين العائلات، ووضعهم في بوتقة رعب، أين منها تعذيب البنات الصغيرات بالوضع في غرف الفئران مثلاً. ثمة تعذيب "خدماتي" أيضاً، وهو أشدّ مضاءً من أي تعذيب معنوي، عانى منه عبيد الحقب الغابرة، فأن يحصل العبد على وثيقةٍ تثبت اسمه وتاريخ ميلاده، يحتاج إلى سلسلة طويلة من إجراءات تقديم فروض الولاء والطاعة، والأمر أكثر تعقيداً، إذا ما تعلق الأمر بجواز سفر أو براءة ذمة، على اعتبار أن الأصل في ذمة العبد المعاصر أنها بريئة، وتحتاج إلى شهادة لإبرائها، وكذا هو الحال، حين يتعلق الأمر بشهادة عدم محكومية، فكل العبيد المعاصرون محكومون ومتهمون، حتى تثبت براءتهم(!).
على العبيد في الدول الاستعبادية الحديثة، أن يلتزموا بتمويل هذا كله، لكي يكونوا عبيداً
"صالحين"، يؤدون واجب الولاء للأسياد، من أصغرهم إلى أكبرهم، وكل من يفكّر بالتمرد على القيد، أو يرفض، على نحو أو آخر، تمويل عبوديته، سيجد عبيداً آخرين له في المرصاد، يتوسلون إليه، أولاً، أن لا يخرج عن الخط المرسوم، فإن رفض داسوه بأقدامهم هم، قبل أن يبلغ خبر تمرّده الأسياد، فتتسع دائرة العقاب، جرياً على عادة السادة القدماء بالبطش برقيقهم بالجملة، منعاً لفتنة الوعي، ودرءاً لمفاسد التمرّد، وسحقاً لبذرته، قبل أن تمتد وتنمو وتستعصي على الاستئصال.
الحديث أعلاه خاص، إلى حد كبير، بعبيد دول العالمين الثالث والثاني. ولكن، ثمّة عبودية من نوع آخر، خاصة بدول العالم الأول، عبودية من الممكن أن تبدو "جميلة" وممتعة، لكنها تبقى من أنواع الاسترقاق المستحدثة التي لا يروق للعبيد المعاصرين الاعتراف بها، أو حتى سماع كلمة واحدة عنها.
عبيد الدرجة الأولى مُستَرقون بطرق أخرى، وأسيادهم متعدّدون، الشركات الكبرى (شركات الأدوية، التجميل، منتجات التكنولوجيا، الأسلحة، وأدوات الموت المختلفة، وسواها) مراكز القوى الخفية التي تتحكم بالقطيع، عبر أذرع ووسائل "ممتعة!" كاسترقاق شركات الموضة والملابس المختلفة، وأدوات الرفاهية الموهومة، تحوّل العبيد إلى ما يشبه الطفل الذي يبكي حين تغيب عنه "رضاعة الحليب". رجال الإعلام وصناع الرأي العام الذين تسيطر عليهم قوى باطنة وظاهرة، تبرمجهم بإرادتهم أو بغيرها، لتوجيه القطيع الوجهة التي تحقق "مصالحهم العليا". وجهات أخرى، معروفة وغير معروفة، مهمتها الأولى أن تبقى متربعةً على عرش المتعة، متحكمةً بخط سير القطيع. الفرق بين أنواع العبودية، أن ثمة علفاً وفيراً لعبيد الدرجة الأولى، في حين أن على عبيد الدرجة الثانية أن يتحملوا عبء علف أسيادهم، وعلفهم هم.
العالم اليوم أسوأ كثيراً من الغابة، بعدما سيطرت عليه حثالاتٌ بشرية، تخلو قلوبها من الرحمة، وتوجهها غرائزها الحيوانية، وتدوس قيم الحضارة والأخلاق باستمتاع، وتتعقب أي بوادر من شأنها تعظيم القيم الإنسانية السامية، وإعادة الاعتبار لها، إنها ذهنيةٌ مرعبةٌ يحكمها التوحش، وتستبد بها الأنانية، لديمومة استرقاق القطيع، والاستمتاع بخدماته، وتمويل رفاهية الأسياد، بل إن سيكولوجيا قطع الرؤوس، وضرب الجماحم بالصوان، وتذويب المحكوم عليهم بالإعدام في ماءٍ مغلي، قد تبدو ساذجةً أمام التفنن المعاصر في تعذيب عبيد ما بعد الحداثة، وتحويلهم إلى مجرد أقنان معاصرين، في مزارع ما لا يزيد عن واحد بالمائة من سكان الكوكب، يستأثرون بالحصة الكبرى من خيراته وثرواته، ويتركون ما يفيض من فتاتهم للتسعة والتسعين بالمائة.
دلالات
A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن