تلك الدساتير العربية

13 فبراير 2017
+ الخط -
تحرص كل الدساتير العربية على ذكر المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية، من قبيل مبدأ سيادة الشعب والفصل بين السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومثل سيادة القانون، والشعب مصدر السلطات، وغيرها الكثير، كالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات العامة، وكفالة الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين. مثلًا: ينص الدستور السوري، في البند الثاني من المادة الثانية منه، على أن السيادة للشعب. وفي البند الثاني من المادة 25 ينص على أن سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع والدولة. ويقر في المادة 38 حق كل مواطن في الإعراب عن رأيه بحرية وعلانية وبكل وسائل التعبير. وفي المادة 39 يقر بحقه في التظاهر السلمي.
وفي الدستور اليمني، وخصوصا في المادة الرابعة منه، اعتراف بأن الشعب مالك السلطة ومصدرها، ويمارسها مباشرة عن طريق الاستفتاء، كما يزاولها بطريقة غير مباشرة عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وفي المادة الخامسة، يصرح بأن النظام السياسي في اليمن يقوم على التعدّدية السياسية، بهدف تداول السلطة سلميًا. وفي المادة 106 يضع الشروط المطلوبة لمن "ينتوي" (!) الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ومتى ما توفرت تلك الشروط في شخص معين، حق له خوض غمار الانتخابات الرئاسية، وهي شروط معقولة. وفي الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى (الآفلة) حدث ولا حرج، مثل ادعاء دستورها أن السلطة للشعب ولا سلطة لسواه، وكونه السيد الذي بيده السلطة وبيده الثروة وبيده السلاح. ومثل ذلك في الدستورين المصري والتونسي، وغيرهما من الدساتير العربية، وجاءت الإشارة هنا إلى دساتير الدول التي شهدت أحداث الربيع العربي، لأن الاحتقان فيها ظهر علنا.
ومع كل تلك النصوص البراقة التي تنافس أفضل ما في الدساتير الغربية، بل ربما تتفوق عليها، لم تغنِ الشعب السوري مثلًا عن الدخول في متاهة انسداد الأفق السياسي هناك، وتكريس الاستبداد وسيطرة أسرة قليلة العدد على كل مقدرات الوطن من ثروة وقوة، حتى وصلت إلى توريث الزعامة من الأب إلى الابن، ووصل الحال بالشعب السوري إلى رفع شعار الموت ولا المذلة. وفي اليمن، كان علي عبدالله صالح يتربع على كرسي القيادة بزعم أنه وصل إليها بالاختيار الشعبي، ولن يغادرها حتى تنتهي مدة ولايته الدستورية، والتي تجاوزت ثلاثة عقود، وكان يدعي بأحقيته في استمراريتها. وفي ليبيا، تحولت الجماهيرية العظمى إلى عزبة خاصة للمفكر الثائر والقائد المعلم صاحب النظرية العالمية الثالثة وأبنائه، وأصبح الشعب، وهو صاحب السلطة ولا سلطة لسواه، حسب ادعاء ذلك الدستور، في نظر القائد جرذاناً لا يحق لها التظلم من سياسة مدّعي التفويض الإلهي.
والتناقض الحاصل بين ما تقره الدساتير العربية لشعوبها من حقوق وما ترفعه من شعارات ومبادئ سامية وبين الواقع المعاش وبشاعته، موجود ومتكرّر على الأصعدة كافة، يزيد وينقص هنا أو هناك، لكنه لا يغيب أو يختفي عن المشهد السياسي العربي، حتى أصبحت الدساتير العربية، وما تقرّره للمواطنين من حقوق، مثل كذبة أبريل لا يصدّقها الشعب، ولا يغتر بها، ولا يتخوف منها صاحب السلطة، ولا يلقي لها بالًا؛ فهي لا تتجاوز قيمة النكتة السمجة التي فقد الجمهور حماسته، لسماعها من كثرة تكرارها عليه.
كل ما في الأمر أن هذه الأنظمة استوردت هذه النصوص والمبادئ من الدساتير الغربية عن طريق القص واللصق، بدون حتى فهم لمعانيها العظيمة، كما تستورد في العادة المنتجات الأخرى لاستهلاكها في تلميع البرواز، والصورة تبقى كما هي معتمة. للأسف، معظم الأنظمة العربية لا تعرف من هذه المبادئ إلا رسمها وشكلها، كأن العبرة عند هذه الأنظمة بالألفاظ والمباني، لا بالمقاصد والمعاني، وهذا للأسف ديدن غالبية العرب؛ فهم ظاهرة صوتية وشكلية تكفيهم قوة العبارة عن الانتقال إلى مرحلة تطبيق تلك العبارة، حتى أصبحت نصوص الدساتير عندهم كالخشب المسندة، وجودها يضر أكثر مما ينفع، لأنها تخدع الخارج بدعوى أنها أنظمة ديمقراطية، ولا تنفع الداخل، لأنها تحصيل حاصل وصفر على الشمال.
7F111459-B23F-46BA-A565-F8FBD62E3B50
7F111459-B23F-46BA-A565-F8FBD62E3B50
محمد فهد القحطاني

كاتب قطري

محمد فهد القحطاني