يمثل تقرير وزارة الخارجية الأميركية الأخير عن حالة حقوق الإنسان في مصر تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي الصادر قبل أيام، نقطة مهمة من غير المعروف إن كانت ستكون مفصلية في مسار العلاقة بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والسيسي في ما يتعلق بالضغوط الرسمية لتحسين أوضاع حقوق الإنسان والتعامل مع المجال العام. ويقصد هنا المجال العام بمعناه الواسع، والذي يتضمن الحريات الشخصية والعامة على حد سواء، خصوصاً أوضاع حرية التعبير والنشر والتنظيم والمشاركة السياسية والعمل الحزبي والأهلي، إلى جانب محاور أخرى تمسّ صلب الجرائم طويلة الأمد المنسوبة لهذا النظام والمتعلقة بإراقة الدماء والقتل المنظم والإخفاء القسري والمحاكمات غير العادلة والإعدامات.
التقرير الأميركي، الذي صدر يوم الأربعاء الماضي، يختلف عن التقارير السابقة بشأن مصر بنقطتين أساسيتين. النقطة الأولى هي اتساع المنظور الزمني، إذ جاء التقرير في 55 صفحة من القطع الكبير ولم يقتصر على انتقادات بشأن وقائع حدثت العام الماضي أو عام 2017 فقط، بل امتد ليشمل وقائع حصلت منذ 2013 ولم يتم تدارك آثارها بعد. أما السمة الثانية، فهي التعدد الموضوعي، إذ صدر شاملاً انتقادات لنظام السيسي في جميع الملفات التي يمكن للدولة مجرد التفكير فيها، بما في ذلك عمالة الأطفال والتعامل مع المصابين بمرض الإيدز والمتحولين جنسياً، معتمداً في ذلك على تقارير وشهادات صدرت على مدار العام الماضي عن منظمات حقوقية مصرية وعالمية لها ثقلها في دوائر المعلومات الأميركية.
اقــرأ أيضاً
عن هذا الموضوع، قال حقوقي مصري يعمل في منظمة تنشط حالياً خارج البلاد، في حديث مع "العربي الجديد"، إنها "المرة الأولى التي يأخذ فيها مكتب الديمقراطية في وزارة الخارجية الأميركية بجميع الملاحظات" التي اعتادت المنظمة التي يعمل فيها وغيرها من المنظمات المهتمة بالشأن المصري أن تقدمها سنوياً إلى واشنطن بمناسبة إعداد التقرير. وأشار إلى أنه "في الأعوام السابقة من عهد السيسي كانت الوزارة تختصر الملفات المقدمة بشكل كبير، وتستبعد موضوعات بعينها من التقرير النهائي، وهو ما لم يحدث هذا العام".
ولفت المصدر الحقوقي إلى أن "هذا التقرير يكاد يكون مطابقاً في بنائه للتقارير التي كانت تعد في العقد الأخير من حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، وهو أمر مثير للاهتمام، خصوصاً إذا لاحظنا التنوع الذي اتسم به التقرير إلى حد الإشارة الصريحة لموضوعات تمس الأذرع السياسية والإعلامية للسيسي. ومن بين الأمثلة على ذلك، الإشارة إلى واقعة التحرش بالصحافية مي الشامي على يد مسؤول في صحيفة اليوم السابع المملوكة للمخابرات العامة، والحديث عن استخدام الجيش لتصفية الحسابات السياسية مع رئيس الأركان الأسبق الفريق سامي عنان ورئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق قبيل انتخابات الرئاسة، والحديث عن دمج الصحف الخاصة في المؤسسات القومية بدعوى وقف تمويل الإخوان المسلمين والإرهاب".
وأشار الحقوقي نفسه إلى ملاحظة أخرى تبدو مهمة في سياق تغيير نمط التعامل مع السيسي، وهي أن التقرير لم يشر إلى الإخوان المسلمين كأحد التيارات الفاعلة في المشهد المصري، وكأنه يريد أن يهدر على السيسي ونظامه فرصة المتاجرة بمزاعم دعم وزارة الخارجية الأميركية أو دوائر حولها للإخوان، وهو ما يعكس وعياً واضحاً بطبيعة خطاب السيسي الدفاعي والمروج لسياساته القمعية في الغرب، والقائم على التخويف من التيارات الإسلامية بشكل عام.
وينعكس هذا بالفعل على جوانب مختلفة من التقرير، فحتى عندما تحدث عن أزمة إضافة أكثر من 2800 شخص إلى قائمة الإرهاب وتجميد أموالهم، الواقع أنه صدر قرار بمصادرتها، وحرمانهم من الحقوق المدنية وتجديد أوراقهم الثبوتية، لم يذكر التقرير الأميركي أن معظم هؤلاء متهمون "بالانضمام لجماعة الإخوان أو تمويلها". وهكذا تكرر الأمر عند الحديث عن أحكام الإدانة في القضايا الكبرى الصادرة عن محكمتي النقض والجنايات، بل تعامل مع جميع هؤلاء من منظور قانوني بحت، وليس سياسياً، وندد ضمنياً بزعم أن هؤلاء وكذلك الجمعيات الأهلية المجمدة أموالها ينتمون للإخوان، وبالتالي سد ذريعة اتهامات "الأخونة والتأخون" أمام السيسي ونظامه.
كذلك، اتسم التقرير بالوعي لسيناريو الدفاع الحكومي، ونجح في دفع وزارة الخارجية المصرية لإصدار بيان رسمي ضعيف يدين النظام ضمنياً بدلاً من تفنيد مئات الوقائع المذكورة في التقرير الأميركي. وحاول البيان اتهام معديه بأنهم لم يتناولوا الجهود التي تقوم بها الحكومة المصرية لتعزيز حقوق الإنسان "بمفهومها الشامل" والخطوات "الكبيرة" التي تم تحقيقها في مجال الحريات الدينية، وضمان توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لجميع المواطنين، وذلك في إشارة إلى ما يردده السيسي دوماً عن رؤيته الخاصة وتعريفه غير المسبوق للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأنها تتركز في توفير فرص العمل وصرف معاشات الضمان الاجتماعي، ومحاولة إيهام الرأي العام الدولي بأن الشعب المصري في حاجة للحقوق من هذا النوع فقط، وليس إلى الحقوق والحريات الشخصية والعامة المتعارف عليها في جميع مواثيق الأمم المتحدة.
لكن الجديد في هذا الرد هو أنه، وللمرة الأولى، تصف وزارة الخارجية المصرية تقريراً رسمياً أميركياً بأنه "بلا حجية" وأن القاهرة لا تعترف به، ما يعبر عن تطور نوعي أيضاً في الرد المصري يوازي التطور الذي طرأ على التقارير الأميركية من هذا النوع، وهو ما يعكس توتراً ضمنياً كان ينتظر الفرصة ليخرج إلى العلن.
مصادر دبلوماسية مصرية قالت في حديث مع "العربي الجديد"، إن التقرير الأميركي السنوي من الطبيعي أن يتضمن السلبيات فقط وليس الإيجابيات، وهو ما يعكس تردي الرد المصري، لكن خروجه مسلطاً الضوء بكثافة غير مسبوقة – على الأقل في عهد السيسي - على مشاكل قديمة وحديثة ومتنوعة، يعطي صورة مختلفة عن الصورة التي يروجها ترامب في العلن عن العلاقة بالسيسي والتي بلغت أخيراً حد إطلاقه تغريدة خصيصاً للإشادة بافتتاح الرئيس المصري كاتدرائية ومسجداً في العاصمة الإدارية الجديدة. وتعتبر المصادر أن صدور التقرير الأميركي بهذا الشكل الواضح لناحية إدانة السلطات المصرية، يرتبط أساساً بعدة قضايا رئيسية دار النقاش حولها بين وزارتي خارجية البلدين خلال الأشهر الأربعة الماضية، ولم تفلح محاولات السيسي في التودد إلى ترامب بغلق الشق الأجنبي من قضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوق الإنسان بحكم براءة بات، في غلقها أو وقف النقاش حولها مؤقتاً.
التعديلات الدستورية
أولى هذه القضايا هي التعديلات الدستورية التي ستتضمن بقاء السيسي في السلطة على الأقل حتى 2034، فرغم أن ترامب لا يكترث كثيراً بهذه المسألة ويرى أن الاستقرار في دول الشرق الأوسط أولوية للسياسة الأميركية، وإن كان على حساب حقوق الإنسان والحريات، إلا أن العديد من الدوائر بما في ذلك داخل الحزب الجمهوري الأميركي ترى أنه إذا صمتت واشنطن عن مثل هذه التعديلات، فيجب أن يقدم السيسي ضمانات حقيقية لعدم حدوث هزة كبيرة في المستقبل قد تربك الحسابات في المنطقة، والمقصود بذلك خشية حدوث انفجار اجتماعي - سياسي في مصر سواء في صورة ثورة شعبية أو انقلاب عسكري، يضر بالمصالح الأميركية.
كذلك أوضحت المصادر أن الاتصالات التي دارت بين السيسي وترامب مباشرة في الآونة الأخيرة "كانت جميعها إيجابية"، لكن الزيارات الأخيرة هذا العام لوفود سياسية أميركية يهودية تحديداً إلى مصر تضمنت "تحذيرات واضحة" بشأن ضرورة اتخاذ تدابير لفتح المجال العام، وهو ما لم يلق ترحيباً من السيسي أو وزير خارجيته سامح شكري.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، نشرت "العربي الجديد" تقريراً عن تلقي وزارة الخارجية المصرية تساؤلات أميركية عن مصير الدستور ومضمون التعديلات، وتؤكد المصادر بعد هذه الفترة أن جميع الردود المصرية قوبلت بـ"فتور" و"تساؤلات إضافية"، مشيرة إلى أنه "لا يوجد اهتمام أميركي بالتدخل العاجل والضغط الكبير السريع، لكن خروج التقرير بهذه الصورة يفتح الباب أمام اتخاذ خطوات ضغط جادة في المستقبل، ارتباطاً بالمجال السياسي تحديداً".
اقــرأ أيضاً
المؤسسة العسكرية
أما القضية الثانية، فهي وضع المؤسسة العسكرية بشكل عام وفي الحياة الاقتصادية بشكل خاص في دائرة الاهتمام الأميركي، فتتحدث المصادر عن "غضب أميركي إزاء تدخل الجيش الواسع في الحياة المدنية والأنشطة الاقتصادية وتهديد مصالح المستثمرين الأميركيين والغربيين بشكل عام". وأوضحت أن أعضاء من الحزبين الجمهوري والديمقراطي تحدثوا في اجتماعات الغرفة التجارية المشتركة في القاهرة أخيراً عن "تهديدات واضحة وخسائر بالمليارات يتكبدها مستثمرون أجانب بسبب احتكار الجيش للعديد من القطاعات".
هذا الأمر لا تهتم به واشنطن لضمان مصالح مستثمريها فقط، أو بسبب عقود مصرية مع مستثمرين فرنسيين وألمان فحسب، بل يعتبر نواب في الكونغرس، معظمهم ديمقراطيون، أن هذا الوضع يستدعي إعادة النظر في هيكلية منظومة المعونة السنوية للنظام المصري، وكذلك قواعد التفضيل المعمول بها مع الجيش المصري في صفقات استيراد الأسلحة.
وترى المصادر أن الحديث عن دور الجيش كوسيلة سياسية في يد السيسي داخل التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأميركية، يتضمن رسالة لتصحيح وضعه العام وبصفة خاصة في المجال الاقتصادي، الذي لم يتناوله التقرير بالطبع لاختلاف الموضوع، لكن كثافة الحديث عنه في الآونة الأخيرة تجعله ثاني أهم ملف "إشكالي" بين البلدين.
العمل الأهلي
والقضية الثالثة هي مستقبل العمل الأهلي في مصر، وهي مسألة طرحها التقرير بشكل واسع لأنها مجال أساسي لإنفاق ملايين الدولارات سنوياً من جهات مانحة جمهورية وديمقراطية وأكاديمية، وهي أيضاً القشة التي كانت سبباً في قرار واشنطن السابق في صيف 2017 بتجميد نحو 290 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر لمدة 13 شهراً، على خلفية إصدار قانون الجمعيات الأهلية في مايو/ أيار من ذلك العام، وكتابة الناشطة المصرية آية حجازي، التي أفرج عنها السيسي بطلب من ترامب، مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في أغسطس/ آب 2017، دعت فيه الإدارة الأميركية إلى حجب المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى القاهرة وربطها بإحراز تقدم في مجال حقوق الإنسان.
المستجدات الحالية تتمثل في أن الإدارة الأميركية بدأت تتشكك في نوايا السيسي لتعديل القانون فعلياً، فرغم مرور 4 أشهر ونصف الشهر على تعهده بتعديله خلال شهر، لم تظهر أي مسودة رسمية لمشروع التعديل، حتى بعد تواصل وزارة التضامن الاجتماعي المكلفة بإدارة حوار موسع حوله مع ممثلي السفارات والجهات المانحة من الولايات المتحدة وألمانيا ودول أوروبية أخرى، إذ تركزت ملاحظاتهم على ضرورة السماح بتدفق الدعم بعد غلق قضية التمويل الخاصة بالمنظمات الأجنبية.
وذكرت المصادر الدبلوماسية المصرية أن واشنطن "متأكدة من أن القاهرة تحاول العبث معها" لأن التفاهم الذي تم في عام 2017 بشأن وجوب توفيق أوضاع المنظمات المصرية المتلقية للدعم الأميركي أولاً، قبل تلقيها أي دعم سواء عبر وزارة التضامن الاجتماعي أو أي وزارات أخرى أو بشكل مباشر، لم يعد له أي مكان، لأن القانون الحالي معطل ولم تصدر له لائحة تنفيذية، ولم يصدر القانون الجديد الذي وعد به السيسي، فضلاً عن استمرار رفض الأجهزة الأمنية للعديد من الأنشطة، مقابل تمرير التمويل فقط للمشروعات التي تخفف الأعباء عن الحكومة بشكل مباشر، مثل إنشاء مدارس ووحدات صحية ومستشفيات، وتحديداً في قرى الصعيد الأكثر فقراً التي تعترف الحكومة بأن المجتمع الأهلي الممول بمساعدات أجنبية أو تبرعات محلية يتولى أكثر من 70% من الأعمال الإنشائية واللوجستية.
وبحسب المصادر، فإن شخصيات نافذة في الدوائر الأميركية، الجمهورية قبل الديمقراطية، تحدثت بعد تعهد السيسي بتعديل القانون، عن وجوب ضمان السماح لمنظمات المجتمع المدني الأميركية بممارسة عملها في مصر، كجمعيات أجنبية تنشط في مجال العمل الأهلي والتنموي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي، من دون قيود أمنية أو استخباراتية، على أن تنسق واشنطن مع القاهرة في مجالات العمل والجهات الحاصلة على التمويل، كما كان الوضع قبل ثورة يناير 2011، وقبل فتح قضية "التمويل الأجنبي" التي كان السيسي خلالها مديراً للمخابرات الحربية، ومشرفاً على إعداد تقرير اتهم منظمات أميركية بالتحريض على الاستقرار في مصر.
وعلى الرغم من محاولة السيسي "التطهر" من مشكلة استيراد المجلس العسكري الحاكم في الفترة الانتقالية بعد خلع مبارك قطع غيار صواريخ سكود من كوريا الشمالية، وإجرائه عمليات تنسيق أمنية معها، وهي المشكلة التي كانت حاضرة بقوة في الخطاب الأميركي الرسمي لدى قرار حجب المعونة قبل عام ونصف العام، إلا أن البعد الدولي يبقى حاضراً أيضاً بقوة في الظرف الحالي ممثلاً القضية الرابعة.
القضية الفلسطينية
ووفقاً للمصادر الدبلوماسية، فالإدارة الأميركية غير راضية عن الفشل الذي منيت به مساعي السيسي في جهود توحيد السلطة الفلسطينية والتهدئة الأمنية مع إسرائيل، إذ كان هذان الملفان يمثلان "المهمة الرئيسية" الموكلة من ترامب إلى السيسي منذ لقائهما في إبريل/ نيسان 2017 في واشنطن، عندما أعلن السيسي لأول مرة عما يسمى "صفقة القرن"، أي خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، وهو التعبير الذي عاد في يوليو/ تموز الماضي ليصفه بأنه "إعلامي وليس سياسياً".
وأكدت المصادر أن وزارة الخارجية الأميركية تعتبر حالياً أن مصر لم تقم بما هو مطلوب منها لإنجاح هذه "الصفقة"، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في زيارته الأخيرة إلى مصر، والتي أعاد فيها التذكير بالمفردات المكونة للصفقة، علنياً، من وجهة النظر الأميركية من دون أن يطلق عليها اسماً.
وأشارت المصادر إلى أن الملاحظات المصرية التي أعطيت لوزارة الخارجية الأميركية بشأن الصفقة حتى الآن "اعتبرت تعجيزية وتهدف للتعطيل أكثر من كونها نصائح للتسهيل" وعلى رأسها ما يتعلق بتنسيق الملف الأمني لقطاع غزة، حيث يرغب ترامب في إسناده إلى السيسي مباشرة، والذي يريد التنصل منه لمشاكل تتعلق بالقدرة الأمنية والاستخباراتية، إلا إذا مدت واشنطن يد العون للقاهرة بشكل استثنائي على المستويين المادي والمعلوماتي.
يذكر أن وزارة الخارجية الأميركية قبل إصدارها التقرير بأقل من شهرين كانت قد ذكرت أن الجهود التي يبذلها السيسي لتعزيز الحرية الدينية "تعد مثالًا يحتذى به لجميع قادة وشعوب الشرق الأوسط"، مشيرة إلى أن "القاهرة تعد واحدة من الشركاء القدماء لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط"، في ظل محاولات علنية من نواب بالحزب الديمقراطي لتخفيض المساعدات الأميركية السنوية لمصر.
اقــرأ أيضاً
ولفت المصدر الحقوقي إلى أن "هذا التقرير يكاد يكون مطابقاً في بنائه للتقارير التي كانت تعد في العقد الأخير من حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، وهو أمر مثير للاهتمام، خصوصاً إذا لاحظنا التنوع الذي اتسم به التقرير إلى حد الإشارة الصريحة لموضوعات تمس الأذرع السياسية والإعلامية للسيسي. ومن بين الأمثلة على ذلك، الإشارة إلى واقعة التحرش بالصحافية مي الشامي على يد مسؤول في صحيفة اليوم السابع المملوكة للمخابرات العامة، والحديث عن استخدام الجيش لتصفية الحسابات السياسية مع رئيس الأركان الأسبق الفريق سامي عنان ورئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق قبيل انتخابات الرئاسة، والحديث عن دمج الصحف الخاصة في المؤسسات القومية بدعوى وقف تمويل الإخوان المسلمين والإرهاب".
وأشار الحقوقي نفسه إلى ملاحظة أخرى تبدو مهمة في سياق تغيير نمط التعامل مع السيسي، وهي أن التقرير لم يشر إلى الإخوان المسلمين كأحد التيارات الفاعلة في المشهد المصري، وكأنه يريد أن يهدر على السيسي ونظامه فرصة المتاجرة بمزاعم دعم وزارة الخارجية الأميركية أو دوائر حولها للإخوان، وهو ما يعكس وعياً واضحاً بطبيعة خطاب السيسي الدفاعي والمروج لسياساته القمعية في الغرب، والقائم على التخويف من التيارات الإسلامية بشكل عام.
كذلك، اتسم التقرير بالوعي لسيناريو الدفاع الحكومي، ونجح في دفع وزارة الخارجية المصرية لإصدار بيان رسمي ضعيف يدين النظام ضمنياً بدلاً من تفنيد مئات الوقائع المذكورة في التقرير الأميركي. وحاول البيان اتهام معديه بأنهم لم يتناولوا الجهود التي تقوم بها الحكومة المصرية لتعزيز حقوق الإنسان "بمفهومها الشامل" والخطوات "الكبيرة" التي تم تحقيقها في مجال الحريات الدينية، وضمان توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لجميع المواطنين، وذلك في إشارة إلى ما يردده السيسي دوماً عن رؤيته الخاصة وتعريفه غير المسبوق للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأنها تتركز في توفير فرص العمل وصرف معاشات الضمان الاجتماعي، ومحاولة إيهام الرأي العام الدولي بأن الشعب المصري في حاجة للحقوق من هذا النوع فقط، وليس إلى الحقوق والحريات الشخصية والعامة المتعارف عليها في جميع مواثيق الأمم المتحدة.
لكن الجديد في هذا الرد هو أنه، وللمرة الأولى، تصف وزارة الخارجية المصرية تقريراً رسمياً أميركياً بأنه "بلا حجية" وأن القاهرة لا تعترف به، ما يعبر عن تطور نوعي أيضاً في الرد المصري يوازي التطور الذي طرأ على التقارير الأميركية من هذا النوع، وهو ما يعكس توتراً ضمنياً كان ينتظر الفرصة ليخرج إلى العلن.
مصادر دبلوماسية مصرية قالت في حديث مع "العربي الجديد"، إن التقرير الأميركي السنوي من الطبيعي أن يتضمن السلبيات فقط وليس الإيجابيات، وهو ما يعكس تردي الرد المصري، لكن خروجه مسلطاً الضوء بكثافة غير مسبوقة – على الأقل في عهد السيسي - على مشاكل قديمة وحديثة ومتنوعة، يعطي صورة مختلفة عن الصورة التي يروجها ترامب في العلن عن العلاقة بالسيسي والتي بلغت أخيراً حد إطلاقه تغريدة خصيصاً للإشادة بافتتاح الرئيس المصري كاتدرائية ومسجداً في العاصمة الإدارية الجديدة. وتعتبر المصادر أن صدور التقرير الأميركي بهذا الشكل الواضح لناحية إدانة السلطات المصرية، يرتبط أساساً بعدة قضايا رئيسية دار النقاش حولها بين وزارتي خارجية البلدين خلال الأشهر الأربعة الماضية، ولم تفلح محاولات السيسي في التودد إلى ترامب بغلق الشق الأجنبي من قضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوق الإنسان بحكم براءة بات، في غلقها أو وقف النقاش حولها مؤقتاً.
التعديلات الدستورية
أولى هذه القضايا هي التعديلات الدستورية التي ستتضمن بقاء السيسي في السلطة على الأقل حتى 2034، فرغم أن ترامب لا يكترث كثيراً بهذه المسألة ويرى أن الاستقرار في دول الشرق الأوسط أولوية للسياسة الأميركية، وإن كان على حساب حقوق الإنسان والحريات، إلا أن العديد من الدوائر بما في ذلك داخل الحزب الجمهوري الأميركي ترى أنه إذا صمتت واشنطن عن مثل هذه التعديلات، فيجب أن يقدم السيسي ضمانات حقيقية لعدم حدوث هزة كبيرة في المستقبل قد تربك الحسابات في المنطقة، والمقصود بذلك خشية حدوث انفجار اجتماعي - سياسي في مصر سواء في صورة ثورة شعبية أو انقلاب عسكري، يضر بالمصالح الأميركية.
كذلك أوضحت المصادر أن الاتصالات التي دارت بين السيسي وترامب مباشرة في الآونة الأخيرة "كانت جميعها إيجابية"، لكن الزيارات الأخيرة هذا العام لوفود سياسية أميركية يهودية تحديداً إلى مصر تضمنت "تحذيرات واضحة" بشأن ضرورة اتخاذ تدابير لفتح المجال العام، وهو ما لم يلق ترحيباً من السيسي أو وزير خارجيته سامح شكري.
وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، نشرت "العربي الجديد" تقريراً عن تلقي وزارة الخارجية المصرية تساؤلات أميركية عن مصير الدستور ومضمون التعديلات، وتؤكد المصادر بعد هذه الفترة أن جميع الردود المصرية قوبلت بـ"فتور" و"تساؤلات إضافية"، مشيرة إلى أنه "لا يوجد اهتمام أميركي بالتدخل العاجل والضغط الكبير السريع، لكن خروج التقرير بهذه الصورة يفتح الباب أمام اتخاذ خطوات ضغط جادة في المستقبل، ارتباطاً بالمجال السياسي تحديداً".
المؤسسة العسكرية
هذا الأمر لا تهتم به واشنطن لضمان مصالح مستثمريها فقط، أو بسبب عقود مصرية مع مستثمرين فرنسيين وألمان فحسب، بل يعتبر نواب في الكونغرس، معظمهم ديمقراطيون، أن هذا الوضع يستدعي إعادة النظر في هيكلية منظومة المعونة السنوية للنظام المصري، وكذلك قواعد التفضيل المعمول بها مع الجيش المصري في صفقات استيراد الأسلحة.
وترى المصادر أن الحديث عن دور الجيش كوسيلة سياسية في يد السيسي داخل التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأميركية، يتضمن رسالة لتصحيح وضعه العام وبصفة خاصة في المجال الاقتصادي، الذي لم يتناوله التقرير بالطبع لاختلاف الموضوع، لكن كثافة الحديث عنه في الآونة الأخيرة تجعله ثاني أهم ملف "إشكالي" بين البلدين.
العمل الأهلي
والقضية الثالثة هي مستقبل العمل الأهلي في مصر، وهي مسألة طرحها التقرير بشكل واسع لأنها مجال أساسي لإنفاق ملايين الدولارات سنوياً من جهات مانحة جمهورية وديمقراطية وأكاديمية، وهي أيضاً القشة التي كانت سبباً في قرار واشنطن السابق في صيف 2017 بتجميد نحو 290 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والعسكرية لمصر لمدة 13 شهراً، على خلفية إصدار قانون الجمعيات الأهلية في مايو/ أيار من ذلك العام، وكتابة الناشطة المصرية آية حجازي، التي أفرج عنها السيسي بطلب من ترامب، مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في أغسطس/ آب 2017، دعت فيه الإدارة الأميركية إلى حجب المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى القاهرة وربطها بإحراز تقدم في مجال حقوق الإنسان.
وذكرت المصادر الدبلوماسية المصرية أن واشنطن "متأكدة من أن القاهرة تحاول العبث معها" لأن التفاهم الذي تم في عام 2017 بشأن وجوب توفيق أوضاع المنظمات المصرية المتلقية للدعم الأميركي أولاً، قبل تلقيها أي دعم سواء عبر وزارة التضامن الاجتماعي أو أي وزارات أخرى أو بشكل مباشر، لم يعد له أي مكان، لأن القانون الحالي معطل ولم تصدر له لائحة تنفيذية، ولم يصدر القانون الجديد الذي وعد به السيسي، فضلاً عن استمرار رفض الأجهزة الأمنية للعديد من الأنشطة، مقابل تمرير التمويل فقط للمشروعات التي تخفف الأعباء عن الحكومة بشكل مباشر، مثل إنشاء مدارس ووحدات صحية ومستشفيات، وتحديداً في قرى الصعيد الأكثر فقراً التي تعترف الحكومة بأن المجتمع الأهلي الممول بمساعدات أجنبية أو تبرعات محلية يتولى أكثر من 70% من الأعمال الإنشائية واللوجستية.
وبحسب المصادر، فإن شخصيات نافذة في الدوائر الأميركية، الجمهورية قبل الديمقراطية، تحدثت بعد تعهد السيسي بتعديل القانون، عن وجوب ضمان السماح لمنظمات المجتمع المدني الأميركية بممارسة عملها في مصر، كجمعيات أجنبية تنشط في مجال العمل الأهلي والتنموي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي، من دون قيود أمنية أو استخباراتية، على أن تنسق واشنطن مع القاهرة في مجالات العمل والجهات الحاصلة على التمويل، كما كان الوضع قبل ثورة يناير 2011، وقبل فتح قضية "التمويل الأجنبي" التي كان السيسي خلالها مديراً للمخابرات الحربية، ومشرفاً على إعداد تقرير اتهم منظمات أميركية بالتحريض على الاستقرار في مصر.
وعلى الرغم من محاولة السيسي "التطهر" من مشكلة استيراد المجلس العسكري الحاكم في الفترة الانتقالية بعد خلع مبارك قطع غيار صواريخ سكود من كوريا الشمالية، وإجرائه عمليات تنسيق أمنية معها، وهي المشكلة التي كانت حاضرة بقوة في الخطاب الأميركي الرسمي لدى قرار حجب المعونة قبل عام ونصف العام، إلا أن البعد الدولي يبقى حاضراً أيضاً بقوة في الظرف الحالي ممثلاً القضية الرابعة.
القضية الفلسطينية
وأكدت المصادر أن وزارة الخارجية الأميركية تعتبر حالياً أن مصر لم تقم بما هو مطلوب منها لإنجاح هذه "الصفقة"، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في زيارته الأخيرة إلى مصر، والتي أعاد فيها التذكير بالمفردات المكونة للصفقة، علنياً، من وجهة النظر الأميركية من دون أن يطلق عليها اسماً.
وأشارت المصادر إلى أن الملاحظات المصرية التي أعطيت لوزارة الخارجية الأميركية بشأن الصفقة حتى الآن "اعتبرت تعجيزية وتهدف للتعطيل أكثر من كونها نصائح للتسهيل" وعلى رأسها ما يتعلق بتنسيق الملف الأمني لقطاع غزة، حيث يرغب ترامب في إسناده إلى السيسي مباشرة، والذي يريد التنصل منه لمشاكل تتعلق بالقدرة الأمنية والاستخباراتية، إلا إذا مدت واشنطن يد العون للقاهرة بشكل استثنائي على المستويين المادي والمعلوماتي.
يذكر أن وزارة الخارجية الأميركية قبل إصدارها التقرير بأقل من شهرين كانت قد ذكرت أن الجهود التي يبذلها السيسي لتعزيز الحرية الدينية "تعد مثالًا يحتذى به لجميع قادة وشعوب الشرق الأوسط"، مشيرة إلى أن "القاهرة تعد واحدة من الشركاء القدماء لواشنطن في منطقة الشرق الأوسط"، في ظل محاولات علنية من نواب بالحزب الديمقراطي لتخفيض المساعدات الأميركية السنوية لمصر.