أول مرّة فكّرت فيها بالكتابة، كتبتُ قصّةً قصيرةً، أقرب للحكاية. كنت أبلغ من العمر أربعة عشر عامًا، وظننت أن كتابتي تحدٍ للمحتل الذي طرد عائلتي، التي امتهنت الزراعة أبًا عن جد من أرضها، فأصبحت عائلةً لاجئةً ببطاقة زرقاء في غزّة.
حين نُشرت قصّتي الأولى، لم تسعني الأرض من الفرح. كان ذلك أوّل عهدي بالقلم والكتابة، كمراهقةِ بدأت تتمرّد على كلّ شيء حولها. وكنت أود أن أحمل الجريدة المحلية وأمرّرها أمام عيون الجنود الإسرائيليين الذين كانوا يقتحمون مدرستي الثانوية، ويلقون القنابل المسيّلة للدموع نحو الطالبات الثائرات والهاتفات بحرّية الوطن.
الكتابة في عيني مرادفة للحرية. لكن حين كبرتُ، وبدأت تلحّ علي أسئلة كثيرة حول كوني أنثى لها جسدها المختلف في تشريحه عن جسدِ الرجل، جسدٌ محاط ومغلف بأغلفة العيب والحرام والمحظور، شاءت الأقدار بأن أتزوج من رجل لم يرَ من المرأة سوى خليلة فراش وخادمة بيت، فزاد في داخلي شعورٌ بالمرارة.
لذلك ربّما تناولت في أوّل قصّة موضوعًا حسّاسًا يؤرّق الآباء الذين يعدّون وجود بنت في البيت، قنبلةً موقوتةً، أو كما كان أبي يقول: "اللي عنده بنت زي اللي عنده شحنة مخدرات مش عارف كيف يخبيها"، فكتبتُ قصة "مدينة الصمت" عن فتاةٍ فقدت عذريتها وهي صغيرة، بعد حادثة اغتصاب، وتزوجت من شابٍ تلقّى تعليمه في دولة أوروبية، لكن ذلك لم يمنعه من البحث عن بكارتها ليلة الزفاف، ثم إرسالها إلى أهلها في غزة على أوّل طائرة حين اكتشف أنها لا تملك ختم العفاف.
حين صدرت مجموعتي القصصية الأولى التي كنت أعرض من خلالها آرائي، طلب مني ناقد نسخة من المجموعة ليكتب عنها، وحين قدمتها له زاد طلبًا آخر؛ صورة شخصية لي واضحة وجريئة. فهو "لا يجيد النقد ما لم تكن صورة صاحبة الكتاب أمام عينيه".
بعد تلك الحادثة بسنوات التقيت كاتبًا عربيًا شهيرًا، طلبت نصحه، باعتبار أني "كاتبة مغمورة"، فقال لي إن استمراري بالكتابة وفق هذه الطريقة، لن أحقّق الشهرة، وسأبقى "محلّك سر"، وإن علي كتابة ما يثير الضجيج والدوّي لدى القرّاء، كالكتابة عن الجنس باعتباره متعة المرأة الوحيدة.
لم أفعل، ولم أحقّق "أعلى المبيعات"، فأنا لا أقتحم تلك "المحظورات" التي تضجّ بها الصحافة، ويصدّقها القرّاء. رغم هذا، لم أتوقف عن طلب النصح، فأرسلت لكاتبٍ آخر، ردّ علي بعد شهور: "أرجو أن تخبريني كيف تعتنين بجمالك في ظلّ الحصار في غزّة؟".
أسرتني القراءة قبل أن تأسرني الكتابة، أحببت شعر نزار قباني، كشاعرٍ يدعو النساء للثورة. وأهدتني صديقة في بداية زواجي ديوانا له، وكنت أنوي قراءته بعد مغادرتها لكن زوجي رآه على حافّة السرير، فصرخ في وجهي: "كيف تسمحين لهذا الكتاب أن يدخل بيتي؟" قال بيتي لا بيتنا.
أخذ زوجي الكتاب ومزّقه نصفين ثم ألقاه من النافذة إلى الشارع المبتلّ بماء المطر، فلاحقتُ بعيون دامعة الكتاب الممزّق. هو الكتاب الذي كنتُ أعرفه، وأخفيه بين طيّات الغطاء الذي أتدثّر به في الشتاء.
لكن والدي لمح بطرف عينه، أنني أقرأ كتابًا ليس من المنهج الدراسي، فانهال عليّ تأنيبًا وتوبيخًا، قال كلامًا كثيرًا عن نزار، على غرار أنّه يحرّض الفتيات على الفسق والفجور منذ حداثتهن، ويعلّم الزوجات خيانة أزواجهن، وفي النهاية أخذ أبي الكتاب ومنعني من قراءته، وها هو الكتاب نفسه، يستقرّ ممزّقًا على الرصيف، تغمره مياه المطر، بيد أني كنت أرى تحت المطر نزار يهمس لي: "تكلّمي … تكلمي… أيتها الجميلة الخرساء تحدثي…/ تحدّثي عن كلّ ما يخطر في بالك من أفكار…/ تصرّفي حبيبتي…كسائر النساء".
لكن والدي لمح بطرف عينه، أنني أقرأ كتابًا ليس من المنهج الدراسي، فانهال عليّ تأنيبًا وتوبيخًا، قال كلامًا كثيرًا عن نزار، على غرار أنّه يحرّض الفتيات على الفسق والفجور منذ حداثتهن، ويعلّم الزوجات خيانة أزواجهن، وفي النهاية أخذ أبي الكتاب ومنعني من قراءته، وها هو الكتاب نفسه، يستقرّ ممزّقًا على الرصيف، تغمره مياه المطر، بيد أني كنت أرى تحت المطر نزار يهمس لي: "تكلّمي … تكلمي… أيتها الجميلة الخرساء تحدثي…/ تحدّثي عن كلّ ما يخطر في بالك من أفكار…/ تصرّفي حبيبتي…كسائر النساء".