تفكيك ملحمة الآخر

27 يناير 2015
+ الخط -
حفر الروائي القطري عبد العزيز آل محمود عميقاً في تاريخ الخليج العربي، فبعد روايته "القرصان" (دار بلومزبري) التي غاص فيها في منطقة معتمة من ذاكرة القارئ العربي إبّان القرن التاسع عشر؛ يذهب إلى منطقة أعمق، في روايته الجديدة "الشراع المقدّس" (دار بلومزبري) التي تؤرّخ بطريقة درامية للمدّ البرتغالي في عالم البحار، أواخر القرن الخامس عشر أي عند نهاية القرون الوسطى. آنذاك كانت مراكز القوى المحيطة بحوض المتوسط، تتبادل الهيمنة على العالم. فتسقط القسطنطينية عام 1453 بيد العثمانيين، والأندلس بيد الإسبان عام 1492، وهو عام اكتشاف "العالم الجديد" أي أميركا. هو زمن يشهد تجارب الأمم، وتعاقب الهمم، وتناوب الدورة الحضارية بين الشعوب. الدورة التي حدّدها حسن حنفي بسبعمائة سنة، حيث الجنوب الثري المترهّل بفعل الثراء والفساد والقمع المتمدّد في جسد الدولة الإسلامية الرخو، بعد الغزو المغولي والغزو الصليبي وعقابيل ذلك في التحوّل الديمغرافي العنيف، الذي تشير إليها الرواية في ثنايا الأحداث، وحيث الشمال الناهض المتربّص بقوّتين؛ العثمانيون، ورثة السلاجقة القادمين من الشرق بعد غزو المغول، والإسبان والبرتغاليون، ورثة الحماسة الكاثوليكية التي تعثرت في الشرق قبل قرنين.
في "الشراع المقدّس"، يستدعي الحاكم يهوديّين لهما معرفة بالعربية؛ "كوفيلهام" و"بافيا"، ويضع أسرتيهما رهينة عنده ريثما يعودان بتقارير كافية عن الساحل الشرقي لقارة أفريقيا، وعن خطّ التجارة البحري الممتدّ من الهند إلى الخليج العربي، والموازي لطريق الحرير الشهير. في إطار الصراع الحادّ على سيادة العالم، ومحاصرة العالم الإسلامي بالالتفاف حول القارة الأفريقية والوصول إلى الهند في الصراع على تجارة التوابل، فيما تتجه الدولة العثمانية الناهضة نحو الجنوب، بعد توقّف مدّها غرباً عند النمسا. تظلّ مناطق العمق العربية تحت سلطة الأسر المتعاقبة والمتناحرة في الأحساء ونجد واليمن وهرمز وعُمان، فيما تقع مصر والشام وسواحل البحر الأحمر من الجهتين، بيد المماليك ورثة الأيوبيين.
كلّ هذا نتابعه في سردية تاريخية تأخذنا في خطّ زمني يمتدّ نحو ثلاثين عاماً تقريباً. يجهد المؤلّف في متابعة الجاسوسَين من البرتغال حتّى اليمن حيث يفترق الصديقان. وذلك في مشاهد روائية متتالية يتنازعها السرد التاريخي وأدب الرحلات في الربع الأوّل. بيد أن الرواية تأخذ بعداً فنيّاً آخر في تقطيع الفصول وتناوب مساراتها، في خطوط درامية تتبع رحلة "كوفيلهام" و"بافيا" نحو الشرق من جهة، وحسين الكردي وصديقه سليمان وهما يرسمان بقلقهما الأيام الأخيرة لدولة المماليك من جهة أخرى. ومن جهة ثالثة، حليمة وبن رحال في حكاية عشق دافئة مشاغبة، تذهب فيها "بنيلوبي" العربية في انتظار "عوليسها" ضحية خسّة الحاكم، في رواية شفاهية معروفة.
وفي نسيجٍ متقنٍ، لُحمته السردية التاريخية المكبّلة بوثائقها، وسُداه السردية الدراميّة للأبطال المشاغبين على سيرورة الماضي، الأبطال المنذورين لمصائرهم المدوّنة في دفاتر الماضي، بذل الراوي كلّ الجهد في أن يكون أميناً لأبطاله الحقيقيين، وكما صرّح غير مرّة أنه يستمدّ نصّه من حقائق تاريخية حتّى على صعيد الشخوص.
يعود الجاسوس "كوفيلهام" بعد عام إلى الإسكندرية، مزوّداً بملفّ ضخم عن الشرق، الملفّ الذي يلهب حماسة البوكيرك، لتبدأ أبشع فصول التدمير لأجمل مدن الساحل الأفريقي والخليج وبعض مدن الهند. فيما يغادر" كوفيلهام"، للبحث عن صديقه الذي لم يعد من مجاهل أفريقيا، في رحلة ندمٍ حقيقي، بعدما شاهد فصولاً من التسامح الديني بين الأديان في عدن وهرمز والإسكندرية، فيما يتعرّض اليهود والعرب في إسبانيا إلى التطهير العرقي في أقسى تجاربه.
وبين جالديران، ومرج دابق، والريدانية، وانهيار الممالك العربية الصغيرة في هرمز والعقير علي يد الأسطول البرتغالي؛ ترتبك الخرائط بين مدّ الشمال وجزر الجنوب، وبين "كوفيلهام" و"باث" اليهوديين، وحسين الكردي وسليمان المملوكي وحليمة وبن رحال العربيين، والبوكيرك البرتغالي تشتبك الأحداث والمصائر، ويتبادل الشخوص عبء نقل الأحداث التاريخية وتفسيرها.
في عملٍ ضخم يصل إلى أكثر من خمسمائة صفحة، تمثّل رواية آل محمود إضافةً إلى مكتبة الرواية التاريخية العربية، التي تشهد جهوداً روائية متناثرة. وتأتي أهمّيتها من تناولها صفحات منسية في تاريخ المنطقة، لكنها غير بريئة من الأدلجة التي يظهر فيها صوت الكاتب في أكثر من مشهد: "ولكن يتوجب على سلاطيننا نسيان خلافاتهم وتوحيد جهودهم لصدّ هذا العدو الصائل". ولا تخلو من الإسقاط على الواقع المعاصر: "لاحظ حسين كمية الثراء التي عليها مالك عزيز ومدينته، فلم يسرّه ذلك، فالثراء في نظره، ضعفٌ كبير خلال الصراع، فمن ناحية يجعل الشعب أكثر رفاهية وأبعد عن حمل السلاح..، ومن ناحية أخرى يجعل الحاكم في موقف ضعيف". 
في حين تذكرنا بعض الفصول بخواتيم نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا" و"الحرافيش"، حين تؤكد المشهديات على رؤية الكاتب: "ومع حلول الظلام هبطت بومة قبل أن تطير مرّة أخرى، فيما كانت حليمة وابن رحال يعيشان أحلى لحظات عمرهما، متناسين أنّ الشمس لا تملّ من الشروق على مصائب العالم".
تمضي النهايات - رغم المقاومة الفاشلة بسبب الخيانات - نحو أملٍ يتجدّد بقوّة العثمانيين، من خلال الناجين من الموت؛ حليمة العربية وسليمان المملوكي، وزواجهما الذي أثمر عن حسين (الكردي) وفرح (العربية) وفكري (التركي)، على النحو الذي تنتهي فيه روايات أمين معلوف، فيما يقضي "كوفيلهام" أيامه الأخيرة في الحبشة، نادماً على دوره الحاسم في تدمير مدن الشرق الجميلة.
تبدو رواية "الشراع المقدّس" أدنى إلى قراءة في ملحمة "الآخر"، وتفكيكها، وتهشيمها، وقراءة في مرايا الذات بعيداً من النرجسية الجريحة أو جلد الذات، كما هو الأمر في الخطاب الشعري الذي قارب المرحلة ذاتها.



المساهمون