تفاصيل صغيرة

09 ابريل 2015
+ الخط -

(1)

يقفُ على أعتاب غرفة الولادة.. تستقبل أذنه صرخةً أولية لحياة جديدة.. تضطرب أنفاسه قليلاً، كطالب مقدم على امتحان آخر العام.. تخرج الممرضة منادية بصوت جهوري: "فين جوز المدام؟". ينتبه، يتقدم بخطى مرتبكة.. فتلقمه شيئاً ما، ملتفاً جيداً من البرد ثم تردد.. "اتفضل يا أستاذ بنتك، ربنا يخلي". تتعالى صيحات الفرح من المحيطين ويتحلقون حوله يطالعون وجه الوليد القادم، وتتوالى التعليقات.. "شبهك".

يدقق النظر في ما بين يديه.. لا يرى فيها ما يشبهه.. حسناً ربما لا يدرك جيداً كيف يبدو، يخترق التعليقات المبهمة سؤال ينطلق كالسهم يخترق أذنه وقلبه بسخافة!

تكرر السائلة السؤال مرة أخرى، ظناً منها أنه لم يسمعها: "ها، إيه شعورك تجاه البنت؟!".

يشعر بحيرة شديدة وحرج في نفس الوقت.. الإجابة المثالية أن يقول "طبعاً بحبها". لكنه كان دائماً لا يجيد تلك الإجابات، تندفع الكلمات لتسبقه: "مش عارف!".

يترك الصغيرة لأول يد تلتقطها، ويهرع إلى زوجته، ما زالت لم تستفق من المخدر بعد.. تنادي بغمغمة متألمة: "عايزة أشوفها".

يقربونها منها فتصيح عابسة: "إيه ده، مش حلوة يا ماما".

كانت طوال أيام الحمل تحلم بتلك الصغيرة ذات العيون الملوّنة والشعر الأصفر فما الذي جرى الآن؟! حسناً ربما أبدلوها في الحضانة!

اليوم أتمت الصغيرة عامين.. اليوم، وللغرابة، تراها أمها بعينيها، ملكة جمال هذا الكون! أما هو، فيعرف جيداً الآن أنه يحبها حقاً.. عامان كاملان من التفاصيل اليومية، تكفيه مؤنة أن يعشقها، خفق قلبه الكبير بشدة، وهي تتناول بيدها الصغيرة الفرشاة لتمشط له شعره! يدهشه أنه يذكر، وعادته النسيان، كل التفاصيل!

أول ابتسامة، وأول كلمة، وأول مشية، حين نادته زوجته بصراخ هستيري "الحق بسرعة البنت بتمشي". يذكر أيضاً خططه الشخصية وأحلامه الخاصة التي عدلها، وفصلها الآن لتلائم مقاس الصغيرة، قديما قال له أبوه: "لحظة الأبوة هي لحظة نهاية الوالدين كذوات مستقلة"!.


(2)

تسترق النظر من نافذه السيارة، تسلم رأسها للرياح لتبعثر الذكريات كيفما شاءت.. طالما كانت تفضل الجلوس بجوار النافذة.

كان ذلك في الماضي يكلفها خناقة قصيرة مع أخيها الأصغر، يحسمها صوت أبيها الحازم بعبارة يحفظونها جيداً: "أنت مرة وهو مرة". أخوها حالياً يفصله عنها قارة كاملة! لكنه، الآن، يجلس بالتأكيد كل المرات بجوار النافذة!


(3)

في حفلة التخرج ترفع القبعة لتلقيها في الهواء، تشعر أنها تلقي مع قبعتها أعوامها الستة في الهواء، بأفراحها وأتراحها، معلنة انقضاء عالم مضى وبدء عالم جديد. تقاوم ألماً مزعجاً في الحلق وتتدافع الذكرى.. تبا لتلك التفاصيل الصغيرة التي تحاصرها الآن! ليس هذا وقتك بالتأكيد.. تخشى أن تبكي فتفسد الصورة.


(4)

في غرفتها الصغيرة تصلي صلاة الاستخارة وتبكي.. طلب منها أبوها ردا نهائيا على العريس المتقدم لها.. يرى الجميع أنه عريس لقطة، أما هي فلا ترى شيئا! ربما يمنعها الخوف من المستقبل أن ترى الحاضر!

تقنعها أمها "صلي استخارة وسبيها على ربنا"، تنام على سجادة الصلاة، يراودها أمل طفولي في أن ترى رؤية، ينزل فيها ملك من السماء مؤيدا أو معارضا.. تطيل النوم ولا يأتي الملك!

تستيقظ وقد زادت حيرتها، تصلي ثانية، ثم تحزم أمرها، بقلب متردد، تبلغ أمها: "خلاص موافقة بس على ضمانتك". تتذكر الآن هذه اللحظات وهي بجواره، بعد أحد عشر عاماً، تلمع عيناها بالدموع من كثرة الضحك.. كيف ترددت يوما أن تحيا معه؟! وهل كانت الحياة لتكون إلا معه؟!


(5)

العلاقات بين البشر نوعان:

علاقات إجبارية/عضوية: مع الأب والأم والإخوة والأبناء.

وعلاقات اختيارية: كالزوجة والأصحاب وزملاء العمل.

الحب في كل أنواع العلاقات "ثابت" مشترك يزيد بزيادة التفاصيل وينقص بنقصانها...

الأمومة كمثال للعلاقات الإجبارية ما ماهيتها؟ وهل هي فطرة أم مكتسبة؟

السائد هو أن الأمومة فطرة، فطر الله عليها النساء، ولكن بالمنطق، ما الذي يجعل فتاه عشرينية العمر، تعاني آلاما تسعة أشهر كاملة، ثم بعد عملية الولادة الصعبة، تلتقط كائنا غريبا فتحبه كأكثر ما تحب؟!

لا شك أن لديها من قبل رصيدا من التوقعات والمشاعر المكتسبة خلال فترة الحمل، لكن ذلك لا يكفي لتحبه هذا الحب الكبير!

"نحن لا نحب أبناءنا لكونهم أبناءنا فقط، وإنما لأن ثمة تفاصيل ضخمة تجمعنا معا".

....الحب ليس مفهوما اسميا متعاليا عن الواقع، وإنما هو كائن حي نابض، ينمو ويتنفس، ويتغذى على التفاصيل الدقيقة، ويتحرك وينتقل وينتشر ويتوغل وقد يشيخ أو حتى يموت.

الصداقة مثال للحب الاختياري، تذكيها مجموعة تفاصيل صغيرة، والصداقة دائماً أقل العلاقات ترابطاً مكانياً، هي أقل بالتأكيد من الزواج والأهل، فغالبا ما يفترق الصديقان لظروف ما، لكنها للمفارقة أكثر العلاقات ترابطا قلبيا، حيث تظل التفاصيل محفورة في قلب المرء ووجدانه، يستحضرها أينما حل ورحل، يذكرها فتعلو وجهه ابتسامة صافية، ويختلج القلب حنينا..


(مصر)