19 ابريل 2021
تعفين الوضع السوريّ أم تغييره؟
تقول مؤشّرات متكاثرة إن التوجّه الدوليّ تجاه الوضع السوريّ قام على سياسات أدت إلى تعفينه، وحالت دون تغييره. بعد الثورة، دخلت على خط الحرب، التي شنها النظام ضدها، قوى خارجية، اعتبرتها فرصة ملائمة لتصفية حساباتها وخوض حرب بالواسطة، أداتها السوريون الذين لا بأس عليهم إن ماتوا، من أجل تحقيق مصالح بلدانٍ كان خوضها بقدرات جيوشها سيؤدي إلى مقتل آلاف من ضباطها وجنودها، وضياع أموالها، وحدوث ردود أفعال داخلية ضدها قياداتها، وانخراطها في حربٍ، لا يعرف أحد نهايتها، لن ينجم عنها غير مزيد من تعقيد الأوضاع الدولية، وإضعاف أوضاعها الداخلية، الرسمية والشعبية.
لم يتدخل الخارج، لكي يضع حداً لمجازر نظام الأسد ضد المدنيين، أو يدعم مطالبة هؤلاء بالحرية، أو يوقف قتلهم في الشوارع، ومنعهم من الهتاف باسمها، لكي يتوصل إلى تفاهم دولي حول حلّ سياسيّ، يحول دون تصعيد القتل من فوق، ويضعف احتمال نشوء ردّ فعلٍ عنيف عليه من تحت، مع ما سيفضي إليه العنف والعنف المضاد من تعقيداتٍ، سيصعب الإمساك بخيوطها، ومنعها من تهديد الوضع العربي والإقليمي والدولي، وتقويض الدولة والمجتمع في سورية.
حدث التدخل على شكل انخراط عربي وإقليمي ودولي، شاركت فيه قوى متصارعة، تريد تصفية حساباتها في سورية التي حولتها إلى ساحةٍ لتناقضاتها وخلافاتها، وقررت خوض حرب استنزافٍ منظمةٍ ومديدةٍ ضدّ خصومها فيها، تطلّب نجاحها خوضها في شروطٍ، تضمن استمرارها وتصعيدها، والضغط على الخصم، إلى أن يقر بهزيمته، أو يبدل حساباته الإستراتيجية ومواقفه، أو يقبل التخلي عن بعض مواقعه السورية، أو جميعها، والانخراط في سياقٍ سياسيٍ مختلف عن الذي كان قبل بدء الثورة.
هذه البيئة السياسية، المفعمة بتناقضاتٍ وصراعاتٍ لا يستطيع، وبالتالي، لا يريد، أي طرف عربي، أو إقليمي، أو دولي، حسمها سياسياً أو عسكرياً بتدابير مباشرة وسريعة، جعلت تعفين الوضع السوري محتماً، وقسمت المتدخلين فيه إلى فريقين: فريق روسي/إيراني شرع يخوض الحرب إلى جانب النظام، وفريق أميركي أخذ يدير أزمة كل من له دور، أو وجود، في الساحة، بما في ذلك، أو خصوصاً على الأصح، أزمة الفريق الأول. من سوء حظ السوريين أن من شرعوا يخوضون الحرب كانوا حلفاء النظام، بينما أدار "حلفاؤهم" هم الأزمة، وسرعان ما رسموا لها خطين أحمرين: يمنع أولهما القوى المؤيدة للأسد من تحقيق انتصارٍ يحسم الصراع لصالحه، ويمنع ثانيهما المعارضة من بلوغ وضعٍ يمكنها من حسم الصراع بقواها الذاتية.
بذلك، ترتب على أي انتصار جزئي، حققه أحد الطرفين الداخليين هزيمةً ما نزلت به، وأخذ ضعف أحدهما يستدعي إضعاف الآخر. ومن تابع وقائع الأرض كان يلمس هذا النهج، الذي تظاهر دوماً في حجب السلاح عن الجيش الحر، عندما كان يحقق إنجازات عسكرية.
أدّى تعفين الوضع إلى إطالة حربٍ، تعاظم عجز طرفيها المباشرين عن حسمها، وشجع تشكل قوى مذهبية معادية للنزوع المجتمعيّ والمدنيّ الذي أطلق الثورة، ومكّن هذه القوى من انتزاع جزءٍ متعاظم من مواقع الثورة، ومن حرف الحراك السياسي والعسكري عن هدفه الرئيس: الحرية، وإيجاد بيئةٍ ملائمةٍ لتصعيد الصراع الداخلي، وتحويله إلى صراع مفتوح على احتمالاتٍ خارجيةٍ متنوعة، تتخطى سورية وثورتها وأهدافها، وتضمر خطورة كبيرة عليها، من غير المستبعد، إطلاقاً، أن تسوقها، بعد اكتمال تدميرها، إلى حال من الفوضى، سقط النظام أم بقي، هي البديل لدى قوى عربية وإقليمية، كما لدى إسرائيل، لقيام نظام ديمقراطي أو إسلامي فيها، سيلعب، من دون أي شك، دوراً مهماً في المشرق العربي، وبالنسبة إلى بلدان الخليج وإسرائيل.
متى تنتهي مرحلة التعفين التي شرعت تتخلق وتكتمل، بعد أشهر قليلة من بداية الثورة؟ أعتقد أنها لن تنتهي من دون غلبة واضحة لحسابات الداخل الثوري على صراعات الخارج العربي والإقليمي والدولي: أي لتنظيم قدرات الشعب في إطار استقلاليةٍ فاعلةٍ، تقلص التبعية للخارج، وتمكّن الثورة من امتلاك زمام المبادرة وفصل مصالحها عن مصالح ورهانات دولٍ وقوى خارجيةٍ، تصفّي حساباتها اليوم بدماء سوريين، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وقد تفعل الشيء نفسه بدماءِ غيرهم غداً.
لن ينتهي التعفين من دون ثورة ثانيةٍ، لحمتُها وسداها وعيٌ مطابق لواقعنا، وفهمٌ يدرك مجرياته على حقيقتها، يزيل ما تراكم فوق ثورتنا الحالية، وحجب هويتها، من صراعاتٍ وتصفية حساباتٍ عربية وأجنبية، ويشغل مؤسساتها، ويصحح علاقاتها، فتخرج أعظم ثورة في تاريخ العرب الحديث من مآزقها، وتسترد هويتها، ثورة من أجل الحرية، ترفض تدخل أي طرف في شؤونها ومساراتها، وتمتلك استراتيجية ضاربة تواجه بواسطتها واقع التعفين الذي يقود سورية وشعبها من كارثة إلى أخرى، وتقول دلائل كثيرة إن استمراره يعني هلاكها، مجتمعاً ودولة. ليس الالتصاق بالخارج استراتيجية تستطيع إخراج شعب سورية من واقع خارجي لا سيطرة له على أي جانب من جوانبه، هو ضحية القوى التي تمسك به، وخصوصاً منها أميركا: القوة الأعظم، التي تدعي صداقته. ولا بد من استراتيجية بديلة، تردّ الثورة إلى وضعها الأصلي، فعلاً سورياً صرفاً، ورهانها الأول: الحرية. بغير ذلك، لن يوقف الخارج ما بدأه: تعفين أوضاعها، حتى لا تكون فيها ثورة، ولا تقوم لها قائمة!