تعظيم صغارها وتصغير عظائمها

02 اغسطس 2014

متظاهرون فلسطينيون يطالبون بإنهاء اتفاقية أوسلو وبروتوكول باريس (سبتمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -


تتعرّض القضية الفلسطينية، منذ عقود، لاستراتيجية شاملة، تقوم على تعظيم القضايا الصغرى وتقزيم القضايا الكبرى، حيث نجحت إسرائيل في فرضها على أرض الواقع، بدعمٍ من دول غربية وعربية. وفحوى هذه الاستراتيجية هي التركيز على أمور هامشية، لحجب الرؤية عن القضايا الجوهرية، والعمل على معالجة النتائج، مع تجاهل الأسباب. والهدف ليس فقط فرض الأمر الواقع، بل تطبيعه، وجعله أمراً مقبولاً، بل ومستحبّاً، بالنظر إلى الأزمات التي قد تحدث (منطق الاحتلال أهون من نتائج مقاومته)، إن جرى التركيز على المسائل الجوهرية، أي سبب الصراع.

ونقصد، هنا، بالقضية الجوهرية، الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، أما القضايا الصغرى التي يُعظّم شأنها، فهي متعددة، وتُوظّف للتغطية على الاحتلال، وتُستخدم كمبررات وجوده وتحديثه، إلى درجة أن مفردة الاحتلال تختفي من القاموس السياسي والدبلوماسي، لصالح هذه القضايا "الهامشية" التي تُرفع، فجأة، إلى مصاف قضايا استراتيجية. طبعاً، العملية مقصودة ومدروسة بدقة، غايتها تطبيع الاحتلال، وإسقاط خيار المقاومة، عبر تجريمه، والتفاوض حول ترتيبات للعيش في ظل الاحتلال، وليس إنهاءه، فيما سقط خيار التفاوض من تلقاء نفسه، بسبب انتكاسة عملية أوسلو. وإذا كان سلوك إسرائيل، وسلوك القوى الغربية الداعمة، أمراً متوقعاً، فإن المثير للانتباه ركوب دول عربية موجة تطبيع الاحتلال. فعديدة هي الدول العربية التي تلوم، اليوم، حماس، أكثر ممّا تلوم إسرائيل، وبعضها يتمنى سحقها، كما تمنى سحق حزب الله في 2006.

نكتفي، هنا، بأربعة أمثلة. أولها مطالبة فك الحصار على مقاطعة ياسر عرفات في رام الله، إبان إعادة إسرائيل احتلال أراضي الحكم الذاتي الفلسطينية في الضفة، حيث تحرك العرب والغرب للمطالبة برفع الحصار عن عرفات، أكثر ممّا تحركوا لنجدة أهل جنين، بعد المجازر التي تعرضوا لها. حينها أصبح "مصير" عرفات أهم من الاحتلال والقدس والمستوطنات واللاجئين. وهكذا، نجحت إسرائيل في فرض قضية جزئية للغاية، كقضية مركزية، رمزياً، وحجبت الرؤية عن جوهر الأمور، أي واقع الاحتلال. وسقط العرب في الفخ، وأضحوا ينددون بحصار عرفات، على الرغم من أن ما حدث نتيجة منطقية للاحتلال. وبدل التفاوض بشأن إنهاء الاحتلال، رُكزت الجهود على شخص عرفات. وبالتالي، تكون أية مرونة إسرائيلية حياله بمثابة حجةٍ تُحسب لها، من منظور الغرب والعرب. ومن ثم، يصبح الاحتلال أمراً مقبولاً.

ثانيها، مسألة الأسرى. فعلى الرغم من أهميتها، فإن الفلسطينيين يسيئون، في معظم الأحيان، إدارتها، بينما توظفها إسرائيل بامتياز. فالفلسطينيون يتفاوضون عليها، وكأنها الاحتلال نفسه، بينما هي من تبعات الاحتلال، وتسويتها لا تعني إنهاءه. فقد نجحت إسرائيل في فرض منطقها، والإيقاع بهم في فخها، حيث تتصلّب في مواقفها في ملف الأسرى، لتقديمه ملفاً جوهرياً، عبر شخصنة الأمور، كما فعلت مع عرفات، وكأن الاحتلال لا يخص مصير شعب بأكمله. وبعد التصلّب تبدي مرونة، من قبيل الخداع السياسي، وتتفاوض وتطلق صراح بعض الأسرى، في ظل تغطية إعلامية دولية. لكن، بعد أن تهدأ الأمور، تعود إسرائيل إلى عملها المعتاد، وتعيد القبض على بعض المفرج عنهم، وتعتقل فلسطينيين آخرين، بعيداً عن الكاميرات..

ثالثها، الجدار العازل. فعلى الرغم من أنه نتيجة للاحتلال، فكثيراً ما يُنظر إليه بمعزل عنه، وكأن تهديمه سينهي معاناة الفلسطينيين. فمعاناتهم كانت موجودة قبله، واستمرت بعده، حتى وإن ازدادت حدة، فإنها لن تنتهي بتدميره. لكن الاستراتيجية الإسرائيلية نجحت، هذه المرة، أيضاً، في فرض واقع جديد، كمسألة مصيرية، حاجبة الرؤية عن الاحتلال. ومن ثم، فبمضاعفة القضايا "الهامشية" المترتبة عن الاحتلال، وجّهت إليها الاهتمام، إلى درجة أن بعضهم يبدو وكأنه يتمنى "العودة" إلى واقع الاحتلال، قبل استحداث هذه البؤر الجديدة. على الرغم من أن الحل الوحيد للتخلّص من كل هذه البؤر وتسوية كل القضايا العالقة يكمن في إنهاء الاحتلال.

رابعها، صواريخ المقاومة، التي أصبحت همّ القوى الغربية وحلفائها من الدول العربية، حيث تطالب جميعها بوقف إطلاقها على إسرائيل، لكنها لا تطالب بإنهاء الاحتلال، بالعزم نفسه وبالتحرك ذاته. والمنطق هنا، هو نفسه منطق إسرائيل القاضي بتهميش القضية المركزية وتقزيمها، عبر حجب الرؤية عنها بواسطة قضايا هي من تبعات الاحتلال، وليست من مسبباته. لكن الجميع يعلم أن وقف إطلاق صواريخ المقاومة لا يقود إلى إنهاء الاحتلال، بينما إنهاء الأخير سيجعلها تفقد مبرر وجودها، وستكون حينها حجة على الفلسطينيين. فالمقاومة، في أي مكان، موجودة بوجود الاحتلال، وتزول بزواله.

إن هذه الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على تضخيم الأمور الثانوية وتقزيم القضايا الجوهرية، دلالة على حنكة في إدارة الصراع. فبدل التفاوض على إنهاء الاحتلال، يجري التفاوض على تبعات تبعات (تعبيراته المتتالية) الاحتلال، وهي حلقة مفرغة لا نهاية لها، بالنظر إلى دينامية الاحتلال. أما الفلسطينيون والعرب، فقد رسبوا في هذا الامتحان، لأنهم أساءوا إدارة الصراع، ولأنهم منقسمون على أنفسهم. ثم إذا كان العرب يشرعنون الاحتلال والتدخل الأجنبيين، كما حدث في العراق وليبيا، فكيف بهم أن يرفضوه في فلسطين؟... والنتيجة انسياقٌ عربيّ وفلسطيني وراء إدارة الاحتلال (التفاوض على نتائج النتائج) بدل إنهائه، وكأنهم يسعون إلى إيجاد الظروف لجعله مقبولاً فلسطينياً، وهو الهدف الذي تسعى إليه إسرائيل التي تعمل على رفع كلفة أي محاولة للمقاومة، مهما كان نوعها، لجعل الاحتلال مقبولاً. وقد نجحت جزئياً في ذلك، لأن أطرافاً عربية تعتبر أن كلفة حرب غزة (بشرياً واقتصادياً)، دليل على عقم خيار المقاومة (واستراتيجية حماس)، وعلى أن واقع الاحتلال "أحسن" من الحرب الناجمة عن مقاومته. يحق لأي طرف عربي وفلسطيني أن يقول بعقم المقاومة. لكن، عليه، في هذه الحالة، أن يقدم البديل. فالهمّ الفلسطيني هو التخلّص من الاحتلال، وليس المجادلة حول سبل تحقيق ذلك.