تعذيب وإفلات من العقاب في تونس

06 يوليو 2016

مظاهرة ضد التعذيب أمام وزارة الداخلية بتونس (15اكتوبر/2014/Getty)

+ الخط -
ظنّ التونسيّون، بعد الثورة، أن سياسة التعذيب وسوء المعاملة التي كانت تنتهجها الدولة البوليسيّة، في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، للتنكيل بالمحتجّين والمعارضين، قد ولّت إلى غير رجعة، والظاهر أنّ الواقع خلاف ذلك. فقد ذكرت تقارير متواترة صادرة عن جهات حقوقيّة أنّ التعذيب ما زال حاضراً في تونس، بعد مرور خمس سنوات من الانتقال الدّيمقراطي، على الرغم من تجريم الدستور التونسي أيّ شكل منه، وعلى الرغم من مصادقة تونس على الاتفاقية الدوليّة لمناهضة التعذيب، وإحداثها هيئة مستقلّة معنيّة بمقاومة هذه الظاهرة. وجاء في التقرير السنوي للمنظمة التونسيّة لمناهضة التعذيب، أنّها تلقت خلال السنة المنقضية 250 شكوى من ضحايا التعذيب وذويهم. وجدت معظم الانتهاكات في مراكز الإيقاف والسجون التونسيّة، وأغلب حالات التعذيب (70%) ارتكبها أعوان الشرطة، فيما استأثر حرّاس السجون بـ (30 %) من الانتهاكات الحاصلة في حقّ مواطنين، بينما لم تتجاوز نسبة سوء المعاملة من أعوان الحرس الوطني الـ (10%). وتنوّعت أشكال التعذيب، فمنها ما كان في شكل عقاب (62%)، ومنها ما كان ناتجاً عن انتزاع اعترافاتٍ بالقوّة (19%)، ومنها ما كان إهاناتٍ مختلفة، تتراوح بين التهديد والشتم والاستفزاز المهين. ويفيد التقرير بأنّ الشباب بين 19 و39 عاماً هم الأكثر عرضة للانتهاكات، وأنّ 80% من الضحايا من الذكور.
وجاء في تقريرٍ متصل للرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان، سنة 2015، أنّ نسبة العودة إلى اقتراف التعذيب فاقت 45 %، وأنّ" السجون التونسيّة مؤسّساتٌ عقابيّة مهينةٌ أكثر منها ذات وظيفة إصلاحيّة". وأكدت وجود آثار تعذيبٍ لدى بعض المساجين، و"تعرّض متهمين بجرائم إرهابيّة إلى اعتداءاتٍ بدنيّةٍ ولفظيّةٍ يوميّاً". ويخشى حقوقيّون ومنتمون إلى المجتمع المدني من أن تتحوّل الانتهاكات من كونها حالاتٍ فرديّة، ومخالفاتٍ استثنائية عابرة، إلى سلوك يوميّ، يُقدم عليه رجال الأمن وأعوان السجون، في أثناء قيامهم بواجبهم التنفيذي، المتعلّق بتعقّب المتهمين واستنطاقهم وإيقافهم. ومدار الانشغال، هنا، متصل باستغلال بعض الأمنيّين حالة الطوارئ التي تشهدها البلاد، لتوسيع صلاحيّاتهم، وارتكاب أعمالٍ ردعيّة، يشوبها الإفراط في استخدام القوّة، مما يؤدّي إلى إيذاء بعض المواطنين نفسيّاً وجسديّاً. ويتحصّن الأمنيون بقانون مكافحة الإرهاب، وبحجّة حماية البلاد من خطر الجماعات المتطرّفة، فينصرف بعضهم إلى التشريع إلى انتزاع اعترافات بالقوّة، وهو ما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، ومع مطلب توفير أسباب المحاكمة العادلة للمشتبه فيهم.
ويمكن تفسير تنامي ظاهرة التعذيب بعد الثورة بعدّة معطيات، لعلّ أهمّها محدوديّة الجهد
الحكومي المبذول في مستوى تأهيل القوّات الأمنيّة والسجنيّة، لاستيعاب ثقافة حقوق الإنسان، وعدم تمكينهم من اكتساب مهاراتٍ جديدةٍ ومناهج متطوّرة في مستوى البحث والاستعلام وآليّات تقصّي الحقيقة، وفي مستوى تطوير أساليب التعامل مع المواطن. فكثيراً ما يتم تقديم الأساليب الردعيّة/ العقابيّة على منهج الاستعلام الدقيق والاستنطاق الذكيّ، في أثناء التعامل مع المشتبه فيهم، وهو ما يُفضي إلى الوقوع في شَرَك الاستخدام المفرط للقوّة ضدّ المتهمين.
يُضاف إلى ذلك أنّ استجواب المشتبه فيه من دون حضور محامٍ يدافع عنه، وطبيب يعاين حالته الصحيّة ووضعه النفسي، في أثناء البحث الابتدائي وبعده، يمكن أن يُعزّز من إمكانيّة حدوث انتهاكاتٍ في حقّ المتهم. كما يُعتبر التلكّؤ في التحقيق في قضايا التعذيب، وتأمين إفلات مرتكبيه من العقاب قبل الثورة وبعدها، من الأسباب الرئيسيّة التي تساهم في انتشار هذا السلوك غير الإنسانيّ، المشين. فقلّة المراقبة، وغياب المحاسبة وعدم إحالة المذنبين إلى العدالة، تنتج شعوراً بالضيم لدى الضحايا، وتزيد من توتّر العلاقة بين الأمنيّين والمواطنين، وتسمح لمقترفي التعذيب بالتمادي في أفعالهم البشعة، وتبريرها بحججٍ وهميّةٍ واهية، وتتيح لآخرين تقليدهم في غير حرجٍ أو خوفٍ من العواقب، على نحوٍ يساهم في إعادة إنتاج الدولة القامعة، ويسيء إلى صورة تونس الجديدة ومساعيها إلى إقامة جمهوريّة ثانية.
والواقع أنّ الحدّ من ظاهرة التعذيب ممكن، بإعادة بناء العقل الأمني، وتخليصه من رواسب السلوك السلطوي العنيف، ومن خلال تعزيز المنظومة القانونيّة، التي تحمي حقوق المشتبه فيهم، وتضمن حرمتهم الجسديّة والنفسيّة في السجون ومراكز الإيقاف. ومن المهمّ تحويل تلك القوانين من كونها نصّاً دستوريّاً إلى كونها واقعاً منجزاً، يعيشه المسؤول والمواطن على السواء. ومن الضروريّ في هذا السياق، تفعيل دور الهيئة الوطنيّة لمكافحة التعذيب، ودعمها ماديّاً ولوجستيّاً لتضطلع بمهامها الرقابيّة والإصلاحيّة في أحسن الظروف. ومن المهمّ بمكان فتح ملفّات التعذيب قبل الثورة وبعدها، لمحاسبة المذنبين وإنصاف المظلومين، تحقيقاً لمطلب العدالة الانتقالية، وتأسيساً لمصالحةٍ منشودةٍ بين المواطن ومؤسّسات الدولة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.