تعددت الوجوه والسجن واحد

16 يونيو 2016
(تصوير: أحمد جميل)
+ الخط -

البشر جميعهم مخلوقون من مادة واحدة، ورغم ذلك تجد التباين بينهم واضحًا في ملامح وجوههم وألوانهم ولغاتهم وخصائصهم النفسية وقدراتهم العقلية. هكذا، تجد أي تجمع بشري يتباين أفراده في سماتهم وقدراتهم حتى وإن كانوا معًا داخل إطار واحد كبير.

وقد وجدت هذا الأمر ينطبق على المعتقلين السياسيين منذ اليوم الأول لدخولي ذلك السجن قبل أكثر من عام. صحيح أنهم كلهم نزلاء نفس المكان واعتقلتهم نفس السلطة في ظل ذات الظروف ويتعرضون لذات الممارسات؛ إلا أن التباينات في ما بينهم واضحة لمن يدقق النظر.

حتى وإن ركزنا نظرتنا على مرحلة الشباب؛ نجدها بداية تتمايز إلى شريحتين أساسيتين؛ شريحة العشرينيات وما دونها بقليل، وشريحة ثلاثينيات العمر. تغلب على الأولى الحماسة إلى حد الاندفاع أحيانًا مع قلة في البضاعة الفكرية؛ ما يجعل أصحابها هدفًا سهلًا للتيارات الفكرية المختلفة وعرضة للشطحات الفكرية التي تمليها ضغوط يتعرضون لها أثناء فترة الاعتقال. بينما الثانية، تخفّ عندها حدة الاندفاع وتحتفظ في الوقت ذاته بحماستها مع رسوخ في الأفكار يعصمها من الشطط برغم الضغوط.

وأهل هذه المرحلة لم ينزلوا إلى ميدان الثورة في وقت واحد، ولا للدوافع نفسها بالضرورة، ولم يُزج بهم في المعتقل لنفس المعطيات.

فقسم منهم هم ثوار يناير الذين بدؤوا المشاركة في الفعاليات الاحتجاجية والثورية قبل خمس سنوات وربما أكثر، وطالبوا برحيل مبارك وبالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فلما رأوا بيادة العسكر تدوس منجزاتهم وتغتال أحلامهم وتعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ثاروا رافضين. منهم من ينتمي للإخوان ومنهم لا، ومنهم من لم يكن يومًا من مؤيدي الرئيس المنتخب.

وقسم آخر لم تمكنهم حداثة أعمارهم من المشاركة في يناير الأولى، ولكنهم نشؤوا في ظل مكتسباتها وتنسّموا أجواءها على مدار عامين ونصف. يصعب على هؤلاء وقد جربوا التعبير بحرية والعمل السياسي بديمقراطية أن يرتدوا إلى عصر ما قبل يناير من قمع وكبت وإذلال؛ فنزلوا إلى ميادين الثورة يدافعون عن الحالة التي نشؤوا في ظلالها في أعقاب يناير.

وقسم ثالث يصح أن نطلق عليهم لقب "العائدون من 30 يونيو" كانوا من معارضي الرئيس المنتخب محمد مرسي ودعموا التمرد عليه وخرجوا في مظاهرات قبل ثلاث سنوات يطالبون بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ثم أفاقوا على وقع الصدمة.

حدثني أحدهم أنه كان واحدًا من هؤلاء الذين نزلوا إلى ميدان التحرير لعزل الرئيس المنتخب، حتى إذا ما وجد البديل حكمًا عسكريًا ونظاما استبداديا شعر أنه قد غُرّر به وقرر أن ينضم إلى من ثار عليهم أول مرة ليكونوا صفًا واحدًا في وجه من يريد التنكيل بهم والعودة بمصر إلى دولة عسكر أشد قبحًا مما كانت عليه أيام مبارك.

وقسم رابع لم يكونوا يومًا من الثوار ولكنهم انتفضوا حينما اغتالت رصاصات الانقلاب العسكري بعض ذويهم. قال لي أحدهم ذات يوم: لم أفكر يومًا أن أكون ثائرًا ولم أهتم يومًا بالسياسة والشأن العام، ولكن رصاص العسكر قتل واحدًا من أقرب أصدقائي في فض اعتصام رابعة وأصاب الثاني فأقعده عن الحركة بقية حياته؛ فكيف لي أن أسكت بعد كل هذا؟

وهناك قسم خامس أسميه "معتقلي الصدفة"، لم يكونوا من الثوار مطلقًا، بل قد يكون بعضهم من مؤيدي سلطة الانقلاب، ومع ذلك لم يسلموا من شراك الاعتقال العشوائي. وما زلت أذكر ذلك اليوم الذي دخل علينا فيه الزنزانة واحد منهم مكفهر الوجه يكاد يبكي حظه العثر الذي أوقعه في براثن السجن بسبب تشابه الأسماء.

عاش سجين المصادفه حياته كلها على أمل أن يصبح رجل قضاء؛ درس القانون وتخرج من الجامعة بتفوق وكان حريصًا على السير "بجوار الحائط" بعيدًا عن السياسة والسياسيين.

تقدم بأوراقه إلى النيابة العامة واجتاز كل اختباراتها بنجاح، ولا أستطيع أن أصف حسرته حينما علم أنه قد تم تعيينه بالفعل وأن عليه أن يتوجه إلى الجهة المعنية لتسلم وظيفته وحلم حياته، ولكنه لا يستطيع؛ إذ هو رهن الاعتقال مع أولئك الذين هرب طوال حياته من طريقهم واحتمى بالسلطة التي اعتقلته واعتقلتهم.

خليط عجيب، إذن، ومجتمع متنوع تحيط به أسوار سجن واحد، ولكن لكلًّ قصته التي تتفق مع غيرها من زوايا وتختلف عنها من زوايا أخرى.


* معتقل على ذمة قضية سياسية. عمل مدرسًا ومدققًا لغويًا ومعلقًا صوتيًا، مدون وناشط سياسي مصري، باحث متخصص في الأدب العربي الحديث

المساهمون