تطويب أوسكار روميرو... الفاتيكان يُصالح "لاهوت التحرير"

03 يونيو 2015
من حفل تطويب روميرو (مارفن ريسينوس/فرانس برس)
+ الخط -
ليس عادياً أن يمرّ خبر تطويب المطران السلفادوري أوسكار روميرو في الفاتيكان، عاصمة الكثلكة، في 23 مايو/أيار الماضي. لم يكن روميرو مجرّد رجل دين آخر يُسجّل اسمه في سجلات الفاتيكان. بل ربما أقرب إلى "المُصلح" الألماني الراهب مارتن لوثر (1483 ـ 1546)، أو حتى إلى العالم الإيطالي غاليلي غاليليو (1564 ـ 1642). لوثر قام باصلاح كنسي في القرون الوسطى، وجوبه بردّ فعلٍ عنيف من الكنيسة الكاثوليكية، قبل أن تعتمد الكنيسة عينها معظم إصلاحاته بعد مماته. أما غاليليو، الذي حوكم في الفاتيكان، لاقتناعه بأن "الأرض تدور"، عكس ما ظنّ بابا روما والإكليروس في ذلك الحين، فقد انتصر بعد أكثر من 350 عاماً على وفاته، باعتراف الفاتيكان بالذات بأن "الأرض تدور بالفعل".

الدور الآن على روميرو. الرجل الذي وجد نفسه وسط حرب أهلية طاحنة في السلفادور (1979 ـ 1992)، بين القوات الحكومية المدعومة من الولايات المتحدة، والحركات اليسارية المناهضة لها. كان مطران السلفادور، الأبرز من بين الكهنة الذين اعتنقوا "لاهوت التحرير"، الذي أقرّه المؤتمر العام لأساقفة أميركا اللاتينية في كولومبيا في العام 1968، وينصّ على وجود حقوق للفقراء، واعتبار أن الدول الصناعية الكبرى قد اغتنت على حساب دول العالم الثالث. يدعو هذا النوع من اللاهوت إلى إعادة الاعتبار للجميع ضمن عنوان "العدالة الاجتماعية"، ومشاركة الجميع في الثروات.

ومع أن البعض نفى انتماء روميرو إلى "لاهوت التحرير"، معللين بأنه "كان باحثاً ومدافعاً عن الأفكار الكاثوليكية داخل لاهوت التحرير، لا مؤمناً به كما أُشيع"، لكن ذلك لم يجد مكاناً له في سيرة روميرو، الذي سطع نجمه بقوة، عندما خصص عظاته الأسبوعية لمحاربة معظم أفرقاء الصراع السلفادوري، داعياً إلى احترام حقوق الإنسان. وتم بثّ العظات عبر الراديو، مثيرة مخاوف كل الأطراف من امكانية سحب روميرو البساط من تحت أقدامهم.

واجه الفاتيكان بقيادة البابا البولندي الراحل يوحنا بولس الثاني، روميرو، واتهمه بـ"نشر ثقافة مغايرة لمسيحانية الإنجيل". شأنه شأن مطارنة آخرين من الأميركتين. مع أن "لاهوت التحرير" لم يأتِ "بجديد"، بل كان أقرب إلى رهبنة فرنسيس الأسيزي (1181 ـ 1226)، لكن الفاتيكان كان قد تغيّر كثيراً منذ ذلك الحين، مع تزايد دخول عناصر مادية إلى ثقافته، أظهرتها الثورة الفرنسية (1789).

اقرأ أيضاً: بابا الفاتيكان يعلن فلسطينيتين كأول قديستين في العصر الحديث 

لم يستمرّ مشوار روميرو طويلاً، بل قضى أثناء ترؤسه قداساً في 24 مارس/آذار 1980، على يد "مجهول"، لم يُعرف حتى الآن، على الرغم من مرور 23 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية السلفادورية، وإجراء المصالحة الداخلية. اتُهم الجميع باغتيال روميرو: الحكومة والولايات المتحدة، التي أقرّت في 24 مارس/آذار 2010، في الذكرى الـ30 لاغتيال روميرو، "اليوم العالمي للحق في معرفة الحقيقة بخصوص الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكرامة الضحايا".

كما اتُهم اليساريون واليمينيون المتطرفون باغتيال رأس الكنيسة في السلفادور، لكن من المؤكد أن بعد اغتيال روميرو، تراجعت أسهم "لاهوت التحرير"، ربما لخشية الكهنة اللاتينيين من مصير مماثل. وأدى التراجع إلى عودة "بورجوازيي" الكنيسة إلى السلطة، بعد حركة تعيينات شاملة، لم تنتهِ سوى بعد وفاة يوحنا بولس الثاني (2005)، واستقالة خَلَفَه البابا الألماني بينيدكتوس 16 (2013)، وتبوء أول بابا من أميركا اللاتينية سدة الفاتيكان: الأرجنتيني فرنسيس.

أحدث فرنسيس تغييرات عدة في هيكلية الفاتيكان، ومنها إعادة الاعتبار لبعض مفاهيم "لاهوت التحرير"، ليُكرّسها بتطويب روميرو، في رسالة من وجهين للكنيسة الكاثوليكية: عدم خسارة الخزان الأكبر لها في العالم في الأميركتين، والاعتراف بصحة "لاهوت التحرير" وعدم مناقضته لمفاهيم الكنيسة وإنجيلها.

كما لامس البابا الأرجنتيني عقول الشعوب اللاتينية، بعد تخلّيه عن بعض "التقاليد" ككراسي وصلبان الذهب، رافضاً ارتداء أزياء عادية مقارنة بأسلافه، فضلاً عن التعامل بعفوية مع الجميع، في إشارة إلى نمطٍ كنسي جديد مولودٍ من رحم "لاهوت التحرير".

أساساً لـ"لاهوت التحرير" في الأميركتين رونق خاص، جعل منه مصدر قلق للفاتيكان، وعُدّ خارجاً ومتمرّداً عليه. لكنه لم يتمكن من اعتباره "خطأ" أو "مناقضاً للقوانين الكنسية"، بل نجح اللاهوت الجديد في تعرية بعض مواقع النفوذ داخل الكنيسة، التي حاربته على أساس "ماركسيته" و"شيوعيته"، في حراك مشابه لما فعله السيناتور الأميركي جوزيف مكارثي في الولايات المتحدة بين العامين 1950 و1954، باتهامه مئات الأميركيين، من دون أدلّة، بأنهم "شيوعيون"، فقط لكونهم من المثقفين والمؤثرين في مجتمعاتهم.

ارتكز "لاهوت التحرير" على تزاوج الحاجات الاجتماعية للناس مع ما يدعو إليه الإنجيل، ضمن مفهوم "العدالة الاجتماعية"، أي "الرسالة الأساسية للإنجيل". وتمكن من النفاذ سريعاً إلى القواعد الشعبية داخل أميركا الوسطى والكاريبي وأميركا اللاتينية، مساهماً من دون قصد في تعزيز الأفكار اليسارية، التي كانت في حروب متنقلّة ضد العسكريتاريا اللاتينية، من السلفادور إلى تشيلي، فاليسار الصاعد في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، كان مشابهاً تماماً للحراك الثوري الفرنسي الذي قام ضد طبقة الملوك والنبلاء والإكليروس في فرنسا، مفسحاً المجال لطبقات المزارعين وصغار العمال للخروج من العبودية المبطّنة.

وبتطويب روميرو، بات الفاتيكان أمام خطوة أخيرة، تُعرف كنسياً بـ"التقديس"، وهي رتبة تسمح بوضع المطران السلفادوري في مصاف كبار رجالات الكنيسة، وقد يكون اعتذاراً مباشراً للحرب التي شنّتها الكنيسة ضد "لاهوت التحرير". تماماً كما اتضح أن "الإصلاح الكنسي مطلوب"، حين دعا إليه لوثر، وأن "الأرض تدور" كما جزم غاليليو.

اقرأ أيضاً: مساعي تخليص "بنك الفاتيكان" من المافيا
المساهمون