تلك القصص التي يرويها المُفرج عنهم من مراكز الاعتقال السوريّة، تبقى أكثر القصص إيلاماً ورعباً، خصوصاً عندما تصف حجم الأذى والتعذيب الممنهج. لكن بعض القصص، وعلى الرغم من قساوتها، تؤكد مرة تلو الأخرى على أنّ الشعب السوري يملك من الخصال ما يجعله عصيّاً على الهزيمة، وأنّ ثمّة مَن هم قادرون على العطاء الحقيقي حتى في أقسى لحظات حياتهم.
أسامة ن. مهندس مدني من ريف دمشق، عاش تجربة الاعتقال المرّة لمدّة شهر في أحد أسوأ الأفرع الأمنيّة سمعة، أي فرع الأمن العسكري في كفرسوسة في دمشق، أو ما يسميه المعتقلون "فرع الموت". وقد أتى اعتقاله على خلفية مشاركته في العمل الإغاثي وتأمين أدوية ومعدات طبيّة لمدينة داريا المحاصرة.
على الرغم من أن فترة اعتقال أسامة لم تكن طويلة مقارنة بمعظم مَن يعتقلهم هذا الفرع الأمني، إلا أن شهراً واحداً تقضيه في مكان كهذا، كافٍ ليخرج المرء شخصاً آخر مكسور الروح، هذا إن صدف وخرج صحيح الجسد.
بعد شهرٍ من خروجه من المعتقل، استطاع أسامة أن يروي حكايات يصعب تصديقها، لشدّة قسوتها. وعلى الرغم من تكرّرها في أحاديث المعتقلين، إلا أنها بقيت وكأنها من كوكب آخر.
تحدّث أسامة مطوّلاً عن جلسات التحقيق وما تخلّلها من طرق مختلفة للتعذيب الجسدي والنفسي. لكن الأكثر إيلاماً هي تلك القصص التي رواها عن بعض الذين كانوا رفاق زنزانته.
فتلك المعاناة بالنسبة إليه التي تخلق بين معظم المعتقلين روابط غريبة، قد تكون أكثر إنسانيّة وقوة من كل الروابط الاجتماعيّة خارج المعتقل. يصبح المعتقلون أفراد عائلة واحدة، يدعمون بعضهم بعضاً بكل ما يستطيعون من دون انتظار.
يقول أسامة: "لقد رأيت بأم عيني في خلال شهر من الاعتقال وفي زنزانة واحدة فقط، أكثر من ثمانين حالة وفاة. معظمها، بسبب عدم توفّر العلاج للمعتقلين الذين يعانون أمراضاً مزمنة حملوها معهم أو إصابات مختلفة نتيجة التعذيب. وما يفاقم الوضع هو الغياب المطلق لأي شكل من أشكال النظافة".
ويشير أسامة بأسى إلى أنه "تعرّضنا مراراً للضرب، فقط لمطالبتنا بتأمين الدواء الذي قد يكون بسيطاً لكن كافٍ لإنقاذ حياة أحدهم. لكن المحققين والسجانين لم تعنِهم كل توسلاتنا، ولم يستجيبوا لها سوى مرة واحدة فقط. فجاؤوا إلى الزنزانة وطلبوا من المعتقلين تسجيل قائمة بالأدوية المطلوبة، ليشتريها السجن على حساب المعتقلين أنفسهم. فوجئت في تلك اللحظة بالطابور المخيف الذي تَشكَّل. فقد اصطفّ أكثر من ثلاثين معتقلاً، لم أكن أدرك قبل ذلك اليوم حجم معاناتهم. هؤلاء كانوا يتألمون بصمت من دون أن يشعر بهم أحد".
ويتابع: "بدوا بمعظمهم وكأنهم يقفون على حافة قبرهم. كان منظرهم وهم يرفعون بقايا الملابس المهترئة عن أجسادهم المرهقة ليشرحوا للسجان عن أمراضهم، منظراً موجعاً إلى حدّ القهر، خصوصاً عندما يستمر السجان بالتعامل معهم بإذلالٍ لا يوصف وبعدم اكتراثٍ بآلامهم أو حتى ببقائهم على قيد الحياة".
يصمت أسامة للحظات ويأخذ نفساً عميقاً قبل أن يكمل: "في اليوم التالي، جاء السجان بالأدوية المطلوبة، بعد حذف قسمٍ كبير منها بشكل تعسفي. فظهرت هنا مشكلة أخرى، وهي عجز بعض المعتقلين عن دفع ثمن أدويتهم الباهظ، لعدم توفّر كل المبالغ المطلوبة في أماناتهم المودعة في السجن".
وعندها، يقول أسامة: "تقدّم أكثر من معتقل من الأصحّاء ليعرضوا إكمال المبالغ حتى تصل إلى المطلوب، لكن السجان رفض ذلك بحقدٍ بدا واضحاً على ملامحه القاسية، وأصرّ على دفع المبلغ كاملاً من قبل الجهة المعنيّة وحدها. من جهتهم، ومن دون أي تردّد، تمسّك المعتقلون المانحون بعزمهم على دفع ثمن أدوية كل مَن لم يستطع تسديد الفاتورة. وبالتالي دفع ثلاثة معتقلين مبلغاً تجاوز 115 ألف ليرة سوريّة (نحو 655 دولاراً أميركياً) ثمناً لحياة غيرهم". ويلمع في عينَي أسامة بريق حزنٍ مجبولٍ بالاعتزاز، قبل أن يتابع بحرقة: "هؤلاء هم السوريون. المعتقلون المانحون لا يعرفون حتى أسماء معظم المرضى، لكنهم يعرفون فقط أنهم سوريون مثلهم. ويعرفون تماماً أن لا قيمة لأي مبلغ من المال مقابل إنقاذ حياة إنسان. فكيف إذا كان سوريّاً ومعتقلاً لأنه طالب بحقه في الحياة الكريمة والحرية؟".
أسامة ن. مهندس مدني من ريف دمشق، عاش تجربة الاعتقال المرّة لمدّة شهر في أحد أسوأ الأفرع الأمنيّة سمعة، أي فرع الأمن العسكري في كفرسوسة في دمشق، أو ما يسميه المعتقلون "فرع الموت". وقد أتى اعتقاله على خلفية مشاركته في العمل الإغاثي وتأمين أدوية ومعدات طبيّة لمدينة داريا المحاصرة.
على الرغم من أن فترة اعتقال أسامة لم تكن طويلة مقارنة بمعظم مَن يعتقلهم هذا الفرع الأمني، إلا أن شهراً واحداً تقضيه في مكان كهذا، كافٍ ليخرج المرء شخصاً آخر مكسور الروح، هذا إن صدف وخرج صحيح الجسد.
بعد شهرٍ من خروجه من المعتقل، استطاع أسامة أن يروي حكايات يصعب تصديقها، لشدّة قسوتها. وعلى الرغم من تكرّرها في أحاديث المعتقلين، إلا أنها بقيت وكأنها من كوكب آخر.
تحدّث أسامة مطوّلاً عن جلسات التحقيق وما تخلّلها من طرق مختلفة للتعذيب الجسدي والنفسي. لكن الأكثر إيلاماً هي تلك القصص التي رواها عن بعض الذين كانوا رفاق زنزانته.
فتلك المعاناة بالنسبة إليه التي تخلق بين معظم المعتقلين روابط غريبة، قد تكون أكثر إنسانيّة وقوة من كل الروابط الاجتماعيّة خارج المعتقل. يصبح المعتقلون أفراد عائلة واحدة، يدعمون بعضهم بعضاً بكل ما يستطيعون من دون انتظار.
يقول أسامة: "لقد رأيت بأم عيني في خلال شهر من الاعتقال وفي زنزانة واحدة فقط، أكثر من ثمانين حالة وفاة. معظمها، بسبب عدم توفّر العلاج للمعتقلين الذين يعانون أمراضاً مزمنة حملوها معهم أو إصابات مختلفة نتيجة التعذيب. وما يفاقم الوضع هو الغياب المطلق لأي شكل من أشكال النظافة".
ويشير أسامة بأسى إلى أنه "تعرّضنا مراراً للضرب، فقط لمطالبتنا بتأمين الدواء الذي قد يكون بسيطاً لكن كافٍ لإنقاذ حياة أحدهم. لكن المحققين والسجانين لم تعنِهم كل توسلاتنا، ولم يستجيبوا لها سوى مرة واحدة فقط. فجاؤوا إلى الزنزانة وطلبوا من المعتقلين تسجيل قائمة بالأدوية المطلوبة، ليشتريها السجن على حساب المعتقلين أنفسهم. فوجئت في تلك اللحظة بالطابور المخيف الذي تَشكَّل. فقد اصطفّ أكثر من ثلاثين معتقلاً، لم أكن أدرك قبل ذلك اليوم حجم معاناتهم. هؤلاء كانوا يتألمون بصمت من دون أن يشعر بهم أحد".
ويتابع: "بدوا بمعظمهم وكأنهم يقفون على حافة قبرهم. كان منظرهم وهم يرفعون بقايا الملابس المهترئة عن أجسادهم المرهقة ليشرحوا للسجان عن أمراضهم، منظراً موجعاً إلى حدّ القهر، خصوصاً عندما يستمر السجان بالتعامل معهم بإذلالٍ لا يوصف وبعدم اكتراثٍ بآلامهم أو حتى ببقائهم على قيد الحياة".
يصمت أسامة للحظات ويأخذ نفساً عميقاً قبل أن يكمل: "في اليوم التالي، جاء السجان بالأدوية المطلوبة، بعد حذف قسمٍ كبير منها بشكل تعسفي. فظهرت هنا مشكلة أخرى، وهي عجز بعض المعتقلين عن دفع ثمن أدويتهم الباهظ، لعدم توفّر كل المبالغ المطلوبة في أماناتهم المودعة في السجن".
وعندها، يقول أسامة: "تقدّم أكثر من معتقل من الأصحّاء ليعرضوا إكمال المبالغ حتى تصل إلى المطلوب، لكن السجان رفض ذلك بحقدٍ بدا واضحاً على ملامحه القاسية، وأصرّ على دفع المبلغ كاملاً من قبل الجهة المعنيّة وحدها. من جهتهم، ومن دون أي تردّد، تمسّك المعتقلون المانحون بعزمهم على دفع ثمن أدوية كل مَن لم يستطع تسديد الفاتورة. وبالتالي دفع ثلاثة معتقلين مبلغاً تجاوز 115 ألف ليرة سوريّة (نحو 655 دولاراً أميركياً) ثمناً لحياة غيرهم". ويلمع في عينَي أسامة بريق حزنٍ مجبولٍ بالاعتزاز، قبل أن يتابع بحرقة: "هؤلاء هم السوريون. المعتقلون المانحون لا يعرفون حتى أسماء معظم المرضى، لكنهم يعرفون فقط أنهم سوريون مثلهم. ويعرفون تماماً أن لا قيمة لأي مبلغ من المال مقابل إنقاذ حياة إنسان. فكيف إذا كان سوريّاً ومعتقلاً لأنه طالب بحقه في الحياة الكريمة والحرية؟".