تصويت عقابي في انتخابات المغرب
الذين يملكون، واللائي يملكن، حق المشاركة في الاقتراع في المغرب أنواع، منهم غير المسجلين في اللوائح الانتخابية، وهؤلاء لا حق لهم في الإدلاء بأصواتهم يوم الاقتراع، ومنهم المسجلون في اللوائح، ووسط فئة المسجلين رسمياً في القوائم الانتخابية، نلمس لديهم سلوكات انتخابية متعددة، بحسب الوسط الاجتماعي، والمستوى الثقافي، ناهيك عن الانتماء السياسي، فمنهم المقاطعون للانتخابات، ويمكن إضافتهم إلى غير المسجلين، عند الحديث عن ظاهرة العزوف عن التصويت، وهناك المصوتون بحسب الانتماء الحزبي، وهناك الذين يدلون بأصواتهم ضد الأحزاب التي سبق أن منحوا ثقتهم لمرشحيها، أو التي كانوا يتعاطفون معها، وهذا النوع يمكن تسميته التصويت العقابي، وهو مظهر بارز من السلوك الانتخابي، وتم رصده في الانتخابات الجهوية والمحلية التي نظمت يوم الرابع من سبتمبر/أيلول في المغرب، وكان ضد المرشحين والأحزاب التي نالت ثقة المصوتين في الانتخابات الجماعية لـ 2003 .
ويُذكر أن اصطفاف الفرقاء السياسيين، أي الأحزاب الرسمية المشاركة في الاقتراع، قبل انطلاقة الحملة الانتخابية، وإبّان إعداد قوائم المترشحين والمترشحات، قد تم على أساس فسيفساء المشهد السياسي المغربي؛ مجسداً في فريقين بارزين متنافسين داخل حلبة التدافع الحزبي، هما الأغلبية الحكومية بقيادة حزب العدالة والتنمية، رفقة أحزاب الحركة الشعبية، والتجمع الوطني للأحرار، والتقدم والاشتراكية. ويتألف الفريق الثاني من مكونات المعارضة البرلمانية للحكومة، أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي و"الأصالة والمعاصرة" والاتحاد الدستوري. وهذه راهنت، في الحملة الانتخابية، على هزيمة الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي، بدعوى أنها أخفقت، بعد زهاء ثلاث سنوات ونصف من التدبير الحكومي، في الاستجابة للمطالب الواسعة، والكثيرة للمواطنين والمواطنات، والتي تم التعبير عنها في برامجها الانتخابية، بمناسبة الانتخابات التشريعية 2011، وهو فشل، حسب تصور أحزاب المعارضة، تتحمل فيه أحزاب التحالف الذي يقوده "العدالة والتنمية" المسؤولية كاملة عنه.
توقعت أحزاب المعارضة أن يصوت الناخبون والناخبات ضد أحزاب الأغلبية الحكومية، و"العدالة والتنمية" خصوصاً، تصويتاً عقابياً، بسبب التذمر الهائل وسط فئات المجتمع، لاسيما الشباب، بسبب ارتفاع نسب البطالة في عهد هذه الحكومة، ناهيك عن زيادات أسعار
أرادت أحزاب المعارضة استغلال بطء الإصلاحات الحكومية، وتعثر بعضها، بسبب إكراهاتٍ خارجية وداخلية، لإيهام الناخبين أن أحزاب الحكومة، إن كانت عاجزة عن الاستجابة للمطالبة الملحة والآنية، في موقع المسؤولية الحكومية، فهي أعجز عن الالتزام والتطبيق في موقع الانتداب الجهوي والمحلي؛ لكن يقظة الناخبين والناخبات، والإشارات القوية التي بعث بها الخطاب الملكي للشعب، في 20 أغسطس/آب 2015، والذي فصل بين عمل الحكومة والمجالس المنتخبة، وكان لذلك كله تأثيره الخاص لدى الناخبين والناخبات.
امتد التصويت العقابي الذي كانت ترغب المعارضة في أن يشمل أحزاب التحالف الحكومي، وفي مقدمتها "العدالة والتنمية"، الحاصل على أكبر عدد من المقاعد في مجلس النواب المغربي، إلى بعض مكونات المعارضة نفسها، لاسيما وأن "العدالة والتنمية" لم يكن مهيمناً على المجالس المحلية البلدية والقروية بعد انتخابات 2009، ولم يتورّط منتخبوه في فضائح فساد وسوء تدبير في الجماعات الحضرية والقروية.
ضاعف "العدالة والتنمية" عدد مقاعده في انتخابات الرابع من سبتمبر/أيلول الجاري ثلاث مرات، مقارنة مع انتخابات 2009، والأهم في هذه الانتخابات الجهوية والمحلية، أنه وهو الحزب المشكل للحكومة مع ثلاثة أحزاب أخرى، حصل على أعلى عدد من الأصوات في الانتخابات الجماعية، وعلى خمس جهات من أصل اثنتي عشرة. ما دفع باحثين ومتابعين للشأن السياسي المغربي إلى القول إن "العدالة والتنمية" خرج فائزاً سياسياً في هذه الانتخابات، على الرغم من أن "الأصالة والمعاصرة" هو الحاصل على العدد الأكبر من المقاعد في الاقتراع، وشتان بين الفائز سياسياً والفائز انتخابياً؛ لأن أثر الفوز العددي معرّض للزوال والنسيان من ذاكرة الناخبين والناخبات، أما الفوز السياسي فممتد في المستقبل، والأهم إمكانية تأثيره التوجيهي للناخبين في الانتخابات التشريعية لـ 2016.
دافعت أحزاب التحالف الحكومي، و"العدالة والتنمية" بشكل أكبر، عن وجودها في الساحة في أثناء الحملة الانتخابية؛ بفضح ممارسات عمداء المدن والمنتخبين السابقين الذين تقاعسوا عن خدمة المواطنين، ورفع "العدالة والتنمية" شعار "صوتنا فرصتنا لمواصلة الإصلاح"، مثلما وظفت أحزاب المعارضة، في حملاتها الانتخابية، الأداء الحكومي لأحزاب الأغلبية، لاسيما مردودية "العدالة والتنمية" الذي كان يرفع شعار "صوتنا فرصتنا لمحاربة الفساد والاستبداد". واستطاع أن يبعد أحزاباً عتيدة، كانت تسيطر على كبريات المدن الحيوية في المغرب خارج أسوارها، وفي المقدمة الدار البيضاء، وهيمن على مدن جهات كبرى، مثل الرباط ومراكش وفاس ودرعة تافيلالت، وهزم غريمه الكبير حزب الاستقلال الذي كان حليفه، في التشكيلة الحكومية الأولى لما بعد انتخابات 2011، واستطاع إبعاد الأمين العام للحزب من قلعته الحصينة فاس التي ظل عمدة مدينتها ما يزيد عن عشر سنوات، كما أن "الاتحاد الاشتراكي" المعارض لم يستطع الحفاظ على مقاعده في انتخابات 2009، وكذلك "الاتحاد الدستوري". والفائز الوحيد في المعارضة هو "الأصالة والمعاصرة" الذي حل أولاً، مع تسجيل تركز فوزه في البوادي والعالم القروي، بعدما هيمن مرشحو "العدالة والتنمية" على الحواضر الكبرى.
فشلت أحزاب المعارضة، إذن، في تقزيم حضور حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي، عبر آلية الانتخابات الديمقراطية، كما أن رهانها الكبير على إرباك الحزب، ذي المرجعية الإسلامية، في المدن والجهات المغربية الكبرى، باء بفشل ذريع، وقد مكّنت هذه النتائج المفاجئة للمتتبعين والسياسيين "العدالة والتنمية" من التغلغل، وبسط نفوذه ليس وسط أتباعه والمتعاطفين معه، وما أكثرهم، بل برهن في حضوره، وفوز مرشحيه ومرشحاته الكاسح في خمس جهات كبرى، على امتداد قاعدة المواطنين والمواطنات الذين أصبحوا يثقون في خطابه وجرأة زعيمه، عبد الإله بنكيران، الذي أثبت نظافة مرشحيه من شبهات الفساد، ناهيك عن تمتع أجهزته التقريرية بالمصداقية والنزاهة والتنظيم الجيد.
قرّر الناخبون والناخبات طواعيةً التصويت على مرشحي "العدالة والتنمية" عقاباً لمن تعاقبوا على تدبير الشؤون الجهوية والمحلية للمواطنين، من دون قدرتهم على تحسين ظروف العيش، والاستجابة للمطالب المتعددة والحقوق المشروعة. أرادت المعارضة إضعاف خطاب مرشحي الأغلبية الحكومية باستعمال ورقة الحصيلة الحكومية التي تراها باهتة وغير كافية، فانقلب الأمر ضدها، حين استطاعت الأغلبية، وحزب العدالة والتنمية أساساً، تدبير حملته الانتخابية بقيادة أمينه العام، عبد الإله بن كيران، الذي وفق بين رئاسته الحكومة وزعامته الحزب، فكان الأمين العام الحزبي الوحيد الذي تنقل بطائرة خاصة بين المدن الكبيرة والصغيرة، وجاب نقاطاً ساخنة، واستطاع إقناع الجماهير الغفيرة التي تابعت خطاباته الحماسية التي يجنح فيها للعفوية والبساطة والقدرة الفائقة على الارتجال. باح بصراحة وشفافية، وأبان للناس، على اختلاف طبقاتهم، الفقيرة والمتوسطة وحتى البورجوازية التي صوّت عليه بعض المنتسبين إليها، أنه لم يحقق كل ما كان يصبو إليه، ويحتاج دعم الجماهير لمواصلة الإصلاح ومحاربة الريع والفساد، ودعا الناخبين إلى التصويت على الأصلح من المرشحين.