تتزايد المؤشرات على أن شمال غربي سورية، تحديداً محافظة إدلب، تنتظر عملية عسكرية، من غير الواضح متى ستبدأ وما إذا كان النظام وحلفاؤه سيشاركون فيها فقط، أم أنها ستتحول إلى عملية روسية تركية مشتركة، وذلك بعد أن أجهضت "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، كل المحاولات التي بُذلت، تحديداً من قبل أنقرة، لإقناع الهيئة بحل نفسها وتجنيب إدلب ويلات أي عملية عسكرية، في ظل تهديدات لا تكاد تنقطع من الجانب الروسي باللجوء إلى القوة من أجل القضاء على الهيئة.
ووضعت الهيئة، التي صنّفتها تركيا، أول من أمس الجمعة، كتنظيم إرهابي، مصير إدلب أمام خيارات محدودة، فيما المعارضة تخشى من أن أي مخطط لعملية عسكرية في المنطقة، وإن كان سيبدأ بذريعة القضاء على "النصرة"، فإنه يهدف إلى القضاء على آخر معقل بارز للمعارضة في سورية، وذلك بناء على التهديدات التي تتوالى على لسان المسؤولين الروس ومسؤولي النظام السوري وبناء على التجارب السابقة التي كان يتحجج النظام وحلفاؤه خلالها بوجود منظمات مصنفة إرهابية للقضاء على المعارضة وتهجير المدنيين.
وبعد أن أغلقت "هيئة تحرير الشام" كل أبواب الحوار معها، أجمعت مصادر تركية عدة، أمس السبت، على اعتبار أن تحديث أنقرة تصنيف "جبهة النصرة" في قوائم الإرهاب بإضافة اسم "هيئة تحرير الشام" من بين أسمائها، ليكون بمثابة فرصة أخيرة ممنوحة للهيئة قبل انعقاد القمة الثلاثية التركية الروسية الإيرانية في طهران، يوم الجمعة المقبل، وإعطاء الضوء الأخضر لعملية عسكرية غير معروفة التوقيت والجهات التي ستشارك فيها حتى الآن.
ولفتت المعلومات المتوفرة إلى أن العملية وشيكة الوقوع، وأنه من غير المعلوم إن كانت روسية تركية مشتركة، أو أنها ستكون عملية روسية أو تركية بشكل منفرد، ولم تتضح الجهات التي ستشارك في العملية على الأرض. ولكن مصادر كانت قد تحدثت، في وقت سابق، لـ"العربي الجديد"، أن عملية مشتركة قد تحصل بعد القمة الثلاثية، في وقت تسعى فيه روسيا إلى إقناع تركيا بتطبيق نموذج درعا في محافظة إدلب، وهو ما أكده لاحقاً وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو.
كما أشارت المصادر إلى أن هذه الخطوة تخص تركيا، كي لا تكون هناك ذريعة لأي طرف دولي للقول إن تركيا تدعم الإرهاب، وتبيّن أن المفاوضات مع "هيئة تحرير الشام" كانت عميقة ولم تسفر عن نتيجة، وتحديث بيانات "جبهة النصرة" يصب في إطار التحذير التركي الأخير للهيئة، ولم يتبق سوى البدء بعملية طردها من المنطقة. ورجّحت المصادر أن تحصل عملية جوية مكثفة تستهدف تدمير مقرات "تحرير الشام"، وإضعافها، لكن الخشية تبقى قائمة من أن هذا القصف سيذهب ضحيته مدنيون أيضاً، وسيؤدي إلى عملية تهجير، وسفك مزيد من دماء الأبرياء في المنطقة.
وتواصل تركيا إرسال المزيد من التعزيزات العسكرية إلى داخل الأراضي السورية، إذ رصدت مصادر محلية دخول رتل تركي جديد، مؤلف من عشرات الآليات التي تحوي معدات عسكرية ولوجستية وجنوداً، فجر أمس السبت، وصل قسم منه إلى النقطة التركية في منطقة مورك في ريف حماة الشمالي، بينما وصل القسم الآخر إلى النقطة التركية في منطقة الصرمان في ريف معرة النعمان، جنوب إدلب.
وشكّل مصير محافظة إدلب خلافاً كبيراً بين روسيا وتركيا، أدى إلى تكثيف اللقاءات السياسية والعسكرية والأمنية من الطرفين من أجل إيجاد حل لهذه المنطقة من دون تعرّضها للقصف، ولكن الموقف الدولي التركي وخلافات أنقرة مع واشنطن أضعف من موقفها، ما جعلها تقدّم تنازلات للجانب الروسي، فضلاً عن مخاوف تركية من قصف ربما تنفذه "جبهة النصرة" يطاول مناطق ومدناً تركية مأهولة ويتسبّب في سقوط ضحايا أتراك.
وكان من المؤمل أن تتجاوب الهيئة مع مساعي نزع فتيل الصراع في شمال غربي سورية، إلا أن "التيار المتشدد انتصر داخل الهيئة"، وفق مصادر مطلعة، أكدت في حديث مع "العربي الجديد" أن هذا التيار قاوم بشدة فكرة الحل والاندماج مع فصائل أخرى في المعارضة السورية، ما يضع فصائل المعارضة في إدلب والمنضوية في "الجبهة الوطنية للتحرير" أمام خيارات صعبة في حال بدء العملية العسكرية.
وحاولت مصادر مقربة من الهيئة تبرير تعنّت موقفها بالقول إن "قادة الهيئة تأكدوا أن الغاية هي القضاء عليها تحت أي ذريعة، وليس فتح باب حوار يمكن أن يفضي إلى حل يجنب محافظة إدلب الكارثة"، متجاوزة حقيقة الجهود المكثّفة التي بذلتها أنقرة على مدى أسابيع والمقترحات التي قدّمتها لتجنيب إدلب ويلات العملية العسكرية، إدراكاً منها لخطورة مخططات النظام وحلفائه. وارتأت الهيئة الهروب إلى الأمام مع ما يترتب على هذا الخيار الصعب من أخطار على مستقبل إدلب والمدنيين فيها وفصائل المعارضة، وحتى مستقبلها. وقالت مصادر مقربة من الهيئة إن الأخيرة "هي الأكثر تسليحاً في شمال غربي سورية"، مشيرة إلى أن في صفوفها آلاف المقاتلين المدربين الذين تمرسوا في القتال طيلة سنوات.
ولم تعد "هيئة تحرير الشام" تملك إلا مواقعها في محافظة إدلب وبعض محيطها، إذ تسيطر على أكثر من نصف مساحة إدلب، خصوصاً مدينة إدلب مركز المحافظة، وأغلب مدن وبلدات الشريط الحدودي السوري مع تركيا، إضافة إلى مواقع في ريف حلب الجنوبي الغربي، وأجزاء من ريف اللاذقية الشمالي. في المقابل، تسيطر تنظيمات أخرى متطرفة منها تنظيم "حراس الدين"، والحزب التركستاني"، على مواقع داخل محافظة إدلب، وهو ما يدفع الصراع إلى مستويات خطرة، خصوصاً أن محللين عسكريين يتوقعون أن تشرع قوات النظام ومليشيات تساندها أولاً في عملية عسكرية للسيطرة على ما تبقى من جبلي التركمان والأكراد في ريف اللاذقية الشمالي، خارج سيطرة النظام، وعلى مدينة جسر الشغور غربي إدلب على الحدود السورية التركية، وهي المنطقة التي تنتشر فيها هذه التنظيمات المتشددة.
وتعليقاً على هذه التطورات، أعرب المحلل العسكري العقيد مصطفى البكور، عن اعتقاده بأن شمال غربي سورية "على الأغلب سيخضع لاتفاقيات دولية ترسخ الوصاية التركية، وربما مع بعض التعديلات على الحدود"، مشيراً إلى أن "العملية العسكرية إن تمت فإنها ستشمل كل الفصائل التي ترفض المصالحة والعودة إلى حضن النظام، لكن سيتم تمريرها إعلامياً على أنها ضد الهيئة، وربما هذا الإعلان سيعطي الذريعة لبعض الفصائل للوقوف على الحياد بحجة أن المستهدف هو الهيئة فقط"، وفق البكور.
وتُعد "هيئة تحرير الشام" امتداداً لـ"جبهة النصرة" التي ظهرت في المشهد السوري، في يناير/كانون الثاني عام 2012، وبايعت زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري، الذي أعلن، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، أنها الممثل الوحيد لتنظيم "القاعدة" في سورية. وبدأت "النصرة" في ذاك العام تسيطر على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، وبات لها وجود فاعل على امتداد هذه الجغرافيا، إذ سيطرت في 2012 على مناطق في شمال سورية وجنوبها، كما سيطرت على الرقة في عام 2013، قبل أن يدحرها تنظيم "داعش" عام 2014، خصوصاً في الشرق السوري. وبلغت "جبهة النصرة" ذروة حضورها عام 2015 حين سيطرت مع فصائل الجيش السوري الحر على كامل محافظة إدلب شمال غربي سورية، ولكنها تعرضت لضغوط شعبية كبيرة لتغيير اسمها ومسارها، وهو ما تحقق في يوليو/تموز 2016، فأعلن زعيمها أبو محمد الجولاني فك ارتباط "جبهة النصرة" بتنظيم "القاعدة" وتغيير اسمها إلى "جبهة فتح الشام". وفي يناير/كانون الثاني 2017، اقتتلت الجبهة مع فصائل تابعة للمعارضة السورية في شمال غربي سورية، معلنة عن اندماجها مع فصائل أخرى، في "هيئة تحرير الشام"، والتي تولى قيادتها الجولاني أيضاً.