تشيخوف على فيض الكريم!

03 أكتوبر 2018
+ الخط -
2- لن تتعجب من النبرة الحزينة والمتشائمة التي كانت تغلب على كثير من الرسائل التي كان يرسلها الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف إلى أقاربه وأحبابه، في أوقات كان قد بلغ فيها ذروة شهرته ونجاحه الأدبي، فقد كان الرجل واعياً بحقائق الحياة، ويدرك أن نجاحه الأدبي دون تحقيق استقرار مادي، ليس كافياً لكي يعيش في سلام ودون قلق دائم، وأنه سيتوجب عليه أن يستمر في العمل الجاد لضمان لقمة عيشه، وهو عمل يزيده صعوبة وإرهاقاً أن نتيجته ليست مضمونة على الدوام، مهما بلغ الكاتب من شهرة وأهمية.

يعبر أنطون تشيخوف عن مشاعره تلك مثلاً في هذه الرسالة التي أرسلها إلى عمه في 18 يناير 1887 قائلاً: "يجب أن أخبرك أنه في بطرسبرج أنا الآن أكثر الكتاب شهرة، ويستطيع المرء اكتشاف ذلك من الصحف والمجلات والتي بنهاية العام 1886 كانت تهتم بي وتتناقل اسمي وأخباري وتمتدحني بأكثر مما أستحق، وكانت نتيجة تزايد شهرتي الأدبية أنني حظيت بعدد من الطلبات والدعوات، ومن ثمّ المزيد من العمل والضغوط والاستنفاد، عملي مرهق للأعصاب ومزعج ويخلف ضغطاً. إنه عمل جماهيري ويفرض الشعور بالمسئولية، بما يضاعف من صعوبته، وكل صحيفة قدمت تقريراً عني، تتسبب في القلق لي ولأسرتي، وتُقرأ قصصي في محافل عامة، وأينما ذهبت يشير الناس نحوي، يربكني التزايد المستمر في أعداد من يعرفونني، وغير ذلك من تغيرات، لا أهنأ بيوم واحد من السكينة، وأشعر أنني أسير على الأشواك كل دقيقة".

ولكي لا تظن أن ذلك الشعور بالإرهاق كان طارئاً على نفس تشيخوف القلقة، ستكشف لك رسالة أخرى أن مشاعره ظلت كما هي، حين لم تتحسن ظروفه المادية، ووجد نفسه مطالباً بالاستمرار في إبهار جمهوره مع كل عمل يقدمه، بشكل جعله يسأم الكتابة ويملها، خصوصاً وهو يدرك أنه حتى لو كسب محبة القراء، فإنه يخسر كل يوم معركته مع الزمن، وهو ما تجده في رسالة أرسلها إلى أخيه ألكسندر في يوليو 1891 قال فيها: "أحلم بأن اربح أربعين ألفاً، لأتوقف تماماً عن الكتابة التي أزهدها، وذلك لأشتري قطعة صغيرة من الأرض وأعيش مثل ناسك في معتزل مثالي، على أن تكون أنت وإيفان في الجوار، أحلم أن أقدم خمسة عشر أكر لكل منكما يا قريبي الفقيرين، فإجمالاً أحيا حياة موحشة، وسئمت العمل الدائم بالكتابة للحصول على مقابل ضئيل، بينما يتقدم بي العمر حثيثاً". وفي رسالة أخرى أرسلها بتاريخ 15 إبريل 1894 يكتب لأخيه قائلاً: "لم أعد أرغب في الكتابة، وحقيقة من الصعب الجمع بين الرغبة في الحياة والرغبة في الكتابة"، وهو شعور مركب يفهمه جيداً الذين اختاروا أن تكون الكتابة سبيلهم إلى الرزق وطريقتهم في الحياة أيضاً.


بعدها بأربعة أعوام نرى صراع أنطون تشيخوف مع شعوره بالإحباط واليأس، في ثنايا رسالة يرسلها إلى أخيه ميخائيل من يالطا بتاريخ 26 أكتوبر 1898، بعد أن أبدى أخوه رغبته في الزواج، وبدلاً من أن يقول له أنطون كلاماً عاطفياً يشجعه فيه على الزواج ويتمنى له فيه الخير، يقرر أن يكون في غاية الصراحة مع شقيقه، حتى لو غضب منه، فيقول له في رسالته: "وبالنسبة للزواج الذي تتوق إليه، ماذا بوسعي أن أقول لك؟ فأن تتزوج يعني أنك تحب، لأن الزواج من فتاة لأنها جميلة، يشبه شراء شيئ ما لا يرغب فيه المرء، فقط لأنه وجده في السوق ووجد أنه من صنف جيد. إن أهم رابط أسري هو الحب وما سواه من جاذبية جنسية وجسدية وغير ذلك من أشياء، إنما هي مصدر حزن ووحشة ولا يمكن التنبؤ بنتائجها مهما بلغت مهارتنا في إجراء الحسابات، وبناء على ذلك فالأمر لا يتعلق بجمال البنت بل بأن تُحب، فتجاهل هذه الصفة لأنها لا تعني سوى القليل".

في رسالة أخرى أرسلها إلى أخيه ميخائيل من يالطا بتاريخ 6 فبراير 1899، يعاود أنطون تشيخوف التأكيد على إحساسه بالضجر، وهو إحساس يتداخل فيه الهم الخاص بالهم العام، ولذلك يبدأ الحديث مع أخيه عن قراءته لكتاب كتبه الكاهن بروفيري بعنوان (حياتي)، ويختار له منه فقرة تتعلق بالحروب، قال فيها الكاهن: "إن الجيوش النظامية العاملة في وقت السلم، هي جراد يلتهم خبز الشعب مخلفة فراغاً كريهاً في المجتمع، بينما في وقت الحرب فإنها آلات قتال اصطناعية، وعندما تنمو وتتطور، تضيع الحرية أمام الأمن والمجد الوطني! إنها المدافع غير القانوني عن الظلم والقانون المتحيز، وعن الحظوة والطغيان"، ثم يعلق على تلك الفقرة مذكراً أخاه بأنها كُتبت في أربعينيات القرن التاسع عشر، ومع ذلك فهي لا تزال صالحة لكي يستشهد بها بعد كل تلك السنين على كتابتها، وهو ما يزيد من إحساسه بالضجر واللا جدوى.
وبرغم أن أنطون تشيخوف يعيش في أوقات كثيرة تجربة النجاح الفني والجماهيري، إلا أن مناخ التشاؤم وعدم الاطمئنان للحياة يظل مسيطراً عليه، ولذلك نراه في مواضع متفرقة من الرسائل، لا يبدو مكترثاً جداً بما تحققه مسرحياته من نجاحات جماهيرية، فحين تحقق مسرحية (الخال فانيا) مثلاً نجاحات في جميع أنحاء الإقليم الروسي، لا يفرحه نجاحها بقدر ما يذكره بإخفاقات سابقة، لذلك يحرص على تذكير نفسه بخطورة الركون إلى الفرحة بالنجاح، وإدراك أنها فرحة مؤقتة وغير مضمونة في مهنة كالتي اختارها لنفسه، ولذلك يكتب لأخيه قائلاً: "ولذلك أبداً لا يمكن أن أعرف أين سأربح وأين سأخسر، ولا أعتمد على تلك اللعبة على الإطلاق".

وحين يكتب تشيخوف في 30 أكتوبر 1899 رسالة إلى ممثلة كانت بطلته وملهمته الفنية والعاطفية، يتحدث بضيق بالغ عن هوس الممثلين بفكرة النجاح المدوي الدائم، والتي يمكن أن تفسد الفنان والكاتب إذا راهن عليها وانتظرها طيلة الوقت، ويكتب قائلاً: "النجاح المتوسط والمعتاد ليس كافياً لكم جميعاً أنتم أيها الممثلون المسرحيون، فأنتم بحاجة إلى شيء مدوي للغاية، مؤخراً تعرضتم للإفساد بل وأصابكم الصمم من تكرار الحديث عن النجاحات والمسارح الممتلئة بالمشاهدين وتلك الخاوية، لقد تسممتم بذلك العقار، وخلال عامين أو ثلاثة أعوام لن تكونوا صالحين لشيئ".

وفي رسالة أخرى كتبها بتاريخ 1 نوفمبر 1899 يقرر تشيخوف أن يكون أقل حدة مع بطلته وملهمته، فيمنحها بعضاً من خبرته في العمل في دنيا الأدب والفن، دون أن يكون متأكداً ما إذا كانت ستستجيب إلى نصيحته أم لا، لكنه يقرر أن ينصحها بصدق وإخلاص كما فعل مع أخيه من قبل، فيكتب قائلاً: "لا بد أن تتوقفي عن القلق بشأن النجاح والقلق، لا تدعي مثل هذه الأشياء تشغلك، إنه واجبك أن تداومي على العمل يوماً بعد يوم، بإتقان وفي صمت، وأن تكوني متأهبة لارتكاب الأخطاء التي لا يمكن تجنبها، وللإخفاقات، إجمالاً يجب أن تقومي بأداء وظيفتك كممثلة واتركي للآخرين مهمة إحصاء عدد المكالمات قبل فتح الستارة. فعندما يكتب المرء أو يمثل، يجب أن يكون واعياً بأنه لا يفعل الشيء الصحيح، فهذا أمر معتاد".

وربما كانت النصيحة الأخيرة هي أهم وصية "تشيخوفية" يجب أن تتذكرها إذا كنت ترغب في أن تعمل في الكتابة أو الفن، لأنه لا يقتل الكاتب والفنان ولا يضيعه، أكثر من أن يتملكه دائماً الشعور بأنه يفعل الشيء الصحيح، أو أن يصيبه الخوف الدائم من أن لا يفعل سوى الشيئ الصحيح، لينتهي به الأمر وقد توقف عن فعل أي شيئ، الشر برّه وبعيد.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.