تسونامي البروتستانتيّة يجتاح الصين

24 مارس 2015

كنيسة بروتستانتية في إقليم وهينزو (31يناير/2014/Getty)

+ الخط -

قال صديقي اللبناني، الخبير بالشؤون الصينية، والعائد حديثاً من بكين، إن اكتساح الكنيسة البروتستانتية الجمهور الصيني العريض، من كل الفئات والطبقات، بات يفوق توقعات من هم وراء هذا الغزو الديني لبلاد كونفوشيوس وماو تسي تونغ. فعدد من يدخلون في دين البروتستانتية أفواجاً في الصين، بات يراوح، وبمعدل يومي، بين 10 إلى 15 ألفاً، في السنوات العشر الأخيرة. يؤخذون إلى دروس كنسية منظمة، تُقدم بلغة "المندرين"، اللغة الرسمية الموحّدة لبلاد التنين الأصفر، بعدما كانت كل منطقة فيها تتكلم لغة أو لهجة خاصة بها. وكان الإنجيل قد ترجم إلى اللغة الصينية الرسمية، وطُبعت منه، حتى الآن، أكثر من 70 مليون نسخة، تسهيلاً "للمهمة المقدسة".

وبحسب الصديق، من بين المعتنقين للديانة البروتستانتية نخب مثقفة عالية: أدباء، شعراء، موسيقيون، أكاديميون، إعلاميون، رجال قضاء وسياسيون في مراكز قيادية حسّاسة في الدولة: رؤساء مقاطعات، ونواب رؤساء مقاطعات، وحتى كبار ضباط في أجهزة الشرطة، وجيش التحرير الشعبي الصيني. وهذا كله، بحسب محدّثي، لا يتناقض مع إيديولوجية الدولة الصينية العلمانية، بل "الملحدة"، والتي غدت "متسامحة جداَ" في العقدين الفائتين مع مَن يودون اعتناق أي دين، أو عقيدة روحية، باعتبار ذلك من الشؤون الشخصية المحض، شريطة ألاّ يمسّ ذلك بمصالح الدولة العليا، وقوانينها مرعية الإجراء. فحرية المعتقد الديني باتت، اليوم، بمثابة حجر الزاوية في نص الدستور الصيني، إلى جانب حرية الرأي، وحرية الصحافة، وحقوق الملكية الفكرية وغير الفكرية، والحق في المحاكمة العادلة للجميع.

صحيح أن الدولة الاشتراكية الصينية، منذ ولادتها في 1949، حاربت التيارات الدينية، من مسيحية وإسلامية وكونفوشية وبوذية ولاأدرية... إلخ، خصوصاً في الأرياف وأحياء المدن الفقيرة، غير أن حربها هذه لم تكن حاسمة قاطعة، إلا في كل ما كان يشكل خطراً على أمنها السياسي، ومسار قيامها أصلاً دولة لها هيبتها الداخلية والخارجية. مع ذلك، ما تزال الصين تتهم من الغرب، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية، بأنها بلد يقمع الحريات الدينية، ويحول دون قيام مجتمع ديمقراطي حر. ويتولى إشعال هذه الحملات (ظاهرها ديني وباطنها سياسي)، أكثر من جماعة دينية وسياسية أميركية، في طليعتها جماعة القس الإنجيلي بات روبرتسون، المعروف باستفزازاته (دعا علناً لاغتيال هوغو تشافيز وكاسترو وياسر عرفات)، وجماعة بوب فو، الذي صرح، أخيراً، إن "الحكومة الصينية ضالعة في قمع إخوتنا من المسيحيين الصينيين واعتقالهم، وتهديم كنائسهم، خصوصاً كنيسة سانجيانغ في مقاطعة تشجيانغ، وكنيسة مدينة ون تشو (250 كلم جنوب تشانغهاي)، التي تعتبر محجّة سائر المسيحيين البروتستانت والكاثوليك في الصين".

ينفي الصينيون الرسميون ذلك، ويعتبرون الأمر مجرد حملة من الحملات الأميركية التقليدية عليهم، لتشويه صورتهم في العالم. وقال وزير شؤون الأديان، يي كسايوان، أمام وفد من منظمة الكنائس المسكونية، إن حكومة بلاده ماضية في إجراء إحصاء للمجموعات الدينية، حسب المعايير الدولية في المستقبل القريب، "ولا تعنيها التصريحات المضادة وغير الواقعية التي تصدر في حقها في دول الغرب". وكان جيانغ يو، الناطق باسم الخارجية الصينية، قد شنَّ هجوماً عنيفاً على الولايات المتحدة، اتهمها فيه بـ"انتهاك أبسط قوانين العلاقة الدولية"... و"التدخل السافر في شؤون الدول ذات السيادة في العالم".

وبعيداً من التراشق الرسمي المتبادل بين الدولتين العظميين، ثمّة من يرى أن الولايات المتحدة، ومنذ عقد تقريباً، تخوض حرباً ثقافية بالغة الخطورة والاستفحال ضد الصين، "ستؤتي أكلها حتماً" نهاية العقد الجاري، بتعبير أحد الصحافيين اللبنانيين ممّن يزورون الصين دورياً. وأدوات هذه الحرب قائمة، فعلاً، في تدفّق موجات من المسيحية البروتستانتية شديدة التعصب، والتي ترعاها كنائس إنجيلية متشددة، داخل الولايات المتحدة وخارجها، والتي يقبل عليها الصينيون بشكل غير مسبوق. فبحسب مركز أبحاث بيو الأميركي، فإن تعداد المسيحيين في الصين سيبلغ في العام 2030 حوالي 300 مليون بروتستانتي، عدا الآخرين المنتمين إلى كنائس كاثوليكية وأرثوذكسية (شرقية وغربية)، والذين سيصل تعدادهم، بحسب المركز، إلى 100 مليون في العام المذكور، ما يعني، في نهاية المطاف، أن الصين ستصبح الدولة الأولى في العالم، لجهة ضمّها أكبر محفل ديني مسيحي في القريب العاجل، الأمر الذي سيغيّر، بالتأكيد، من طبيعة الثقافة الصينية الموروثة (الكونفوشية)، والمكتسبة (العقيدة الاشتراكية)، وسيحدث انقلاباً جذرياً في السياسة، تنتظره، بارتياح بالغ، دوائر الولايات المتحدة ومعسكرها الأطلسي. ولذلك، هي "تقف وراء هذه الغزوة الدينية "المشنونة" بشراسة على بكين، وتلهث، أيضاً، بقضّها وقضيضها، إلى حصار بلادنا، وسائر بلاد الأوراسيا "المارقة"، وذلك كله لكي توقف حقيقة ما بات يسمى العدّ العكسي لأفولها إمبراطورية أولى في العالم في الخمسين سنة المقبلة"، بحسب الباحث والأكاديمي الصيني، تشنغ إن فو.

هل ستقف الصين مكتوفة الأيدي إزاء هذا التسونامي البروتستانتي، الآيل إلى تقويضها في كل شيء تقريباً، وخصوصاً أن الإرساليات الإنجيلية المنتشرة في العالم، لم تعد، هذه المرة، تفد من الولايات المتحدة وحدها، وإنما باتت لها مراكز جياشة وقوية في عالم الجنوب: جنوب أفريقيا، أستراليا، نيوزيلندا، وجميعها تتصف بالشكل المألوف والمعتاد للبروتستانتية الأميركية المتوحشة؟

عن هذا السؤال الكبير، يجيب عميد كلية الإدارة الاقتصادية في جامعة هوانان للمعلمين في جنوب الصين، لين يونغ، بأن بلاده بالمرصاد لكل من سيهدد القلعة الصينية، بمناعتها السياسية والاقتصادية والثقافية. ولا يكتفي بذلك، بل يدعو المجتمع الصيني، ومن يتضامن معه من قوى كثيرة في العالم، إلى شن حرب ثقافية واقتصادية مقابلة ضد الولايات المتحدة، تتلخص في الدعوة إلى التخلي عن الدولار عملة عالمية، واستبداله بعملة "الرنمينبي"، وبالدعوة العاجلة كذلك إلى تحقيق العولمة اللغوية، بإحلال لغة الإسبرنتو (كلغة مشتركة أخرى مبتكرة تحت قيادة الأمم المتحدة) محل الإنجليزية. وهذه دعوة قد تبدو مستهجنة لكثيرين، ويبررها لين يونغ بقوله إن الولايات المتحدة تنهب، أيضاً، ثروات الدول الأخرى بالهيمنة الثقافية، وإحدى وسائلها القوية هنا اللغة، أي اللغة الإنجليزية. ما بين 92% إلى 95% من شبكات الإنترنت تستخدم الإنجليزية، وعلى الناس أن يتعلموا الإنجليزية، وأن يشتروا الكتب الإنجليزية، وبذلك يحقق الناشرون الأميركيون والبريطانيون أرباحاً فلكية. كما يمكن للمجلات الإنجليزية أن تصدر في العالم كله، بينما يصعب على المجلات بلغات أخرى أن تحقق هذا التدويل. وعندما يُراد 

في الصين ترجمة الكتب الإنجليزية، يكون لزاماً على الصينيين دفع 8% من قيمة ضريبة النشر، فتدخل أيضاً هذه الأموال إلى جيوبهم بسهولة. فوق هذا وذاك، تحتل الأفلام الأميركية سوقاً كبيرة في الدول كلها، خصوصاً النامية منها، فتحصد مليارات الدولارات سنوياً عبر العالم.

ويتساءل لي يونغ بمرارة: أليست الهيمنة الثقافية الأربح والأدهى والأخطر، هنا، وهي التي تقوّض، بهدوء، ثقافة الآخرين، أقوياء وغير أقوياء؟ لكن شيئاً واحداً يظل يجهله الأميركيون، وغيرهم، هو أن ثقافة كونفوشيوس، الأخلاقية الرفيعة والمسالمة والمُحبّة لجميع البشر، موجودة في جينات كل صيني، وأعتقد، جازماً، أن لا أحد يجرؤ على مجرد تصور إمكانية تحطيم هذه الجينات؟

A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.