30 ديسمبر 2021
تسجيلات محمد علي كلاي تروي سيرته (1/4)
إذا كنت تعتقد أنه لم يعد ثمة جديد يمكن معرفته عن حياة الملاكم الأشهر محمد علي كلاي بعد كل ما أنتج عن حياته من أعمال درامية ووثائقية بل وأفلام رسوم متحركة سيدفعك الفيلم الوثائقي (أنا علي) إلى تغيير رأيك، بسبب ما كشف عنه من تسجيلات شخصية نادرة، كانت الأساس الذي بُني عليها الفيلم الممتع الذي أعاد تأمل سيرة محمد علي كلاي كبطل ملاكمة وصاحب قضية ورب عائلة وعاشق نَزِق، وأولاً وأخيراً كمقاتل صلب لم ينهزم أبداً إلا في معركته مع المرض.
اعتمد الفيلم على تسجيلات تذاع لأول مرة لمكالمات تليفونية أجراها محمد علي كلاي منذ ستينيات القرن الماضي مع أسرته وأصدقائه وحتى بعض خصومه من الملاكمين، لم تكن جهة أمنية تقوم بتلك التسجيلات خصوصاً في تلك الفترة التي كان مدير المباحث الفيدرالية الأميركية الأشهر ج. إدغار هوفر حريصاً على تسجيل مكالمات جميع المعارضين للسياسات الأميركية خصوصاً لو كانوا من المشاهير، بل كان يقوم بها محمد علي نفسه منذ أن وقع في هواية أجهزة التسجيل التي كانت تعتبر في ذلك الوقت رفاهية لا يقدر عليها إلا الأثرياء مثله.
لم يكن محمد علي يقوم بالتسجيلات خلسة، بل كان يخبر جميع من يحدثهم أنه سيقوم بتسجيل مكالماته معهم، وحين كان الجميع يستغرب ذلك أو يستهجنه، كان يقول بثقة إنهم سيعرفون قيمة تلك التسجيلات في المستقبل، وهو ما حدث بالفعل، فبناته اللواتي لم يحببن تلك التسجيلات في طفولتهن، لم يفهمن تأكيده على أنهن سيحببن تلك المكالمات جداً حين يكبرن، إلا عندما مرت الأيام وقام المرض العضال الذي تعرض له بتغيير كل شيء فيه حتى نبرات صوته، وحينها لم تعد تلك التسجيلات مجرد توثيق لعلاقته بهن، خاصة بناته الأكبر اللواتي انفصل عن والدتهن مبكراً، وظلت المكالمات الهاتفية لفترة طويلة وسيلته الأكبر للتواصل معهن، ولذلك صارت تلك التسجيلات توثيقاً لصوت الأب الضاحك الحنون المهتم الدافئ، والذي ربما كان متاحا كشخصية عامة في عشرات البرامج واللقاءات المصورة، لكنه في تلك المكالمات كان الأب الذي يخصهن وحدهن.
برعت مخرجة الفيلم كلير ليونيس في توظيف أجزاء مقتطعة من تلك المكالمات، لتكون المسار الذي ينتقل الفيلم عبره مستعيدا محطات رحلة محمد علي كلاي في الحياة منذ طفولته وحتى صراعه المرير مع مرض الباركينسون، ليتم مزج ذلك مع شهادات عدد من رفاق هذه الرحلة، ويقدم الفيلم من خلال استعراض تلك الحياة الدرامية إجابة لكل من يسأل: لماذا لا يتوقف الإهتمام بمحمد علي كلاي بعد مرور أكثر من 34 عاما على آخر مباراة ملاكمة لعبها؟ حيث لم تعد تظهر فقط أفلام تقدم مجمل سيرته كما حدث في أكثر من فيلم كان أشهرها فيلم (علي) الذي لعب فيه دوره الممثل الشهير ويل سميث وأخرجه المخرج الكبير مايكل مان، بل شهدنا بعده أفلاماً تتحدث عن جوانب تفصيلية من حياة محمد علي، كان أجملها في رأيي فيلم ظهر عام 2009 قدمه المخرج بيت ماكورماك قام فيه بتقديم محمد علي كلاي من وجهة نظر خصومه في حلبة الملاكمة.
في عام 2013 مثلاً وكدليل على تواصل الشغف بسيرة محمد علي، شهدنا فيلمين يقدمان جانباً واحداً من حياته، كل برؤيته وطريقته، أولهما الفيلم الروائي الجميل (معركة محمد علي الأعظم) من إنتاج محطة (HBO) وإخراج المخرج البريطاني ستيفن فيرز، والذي تدور أحداثه عن تفاصيل نظر قضاة المحكمة الإتحادية العليا للقضية التي رفعها محمد علي كلاي متظلماً مما صدر ضده من اجراءات بسبب قراره عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية للاشتراك في حرب فيتنام، وهو فيلم لعب بطولته ممثلون كبار بحجم كريستوفر بلامر وفرانك لانجيلا، ومع أن اسم محمد علي موجود في عنوان الفيلم إلا أن شخصيته لم تحضر في الفيلم إلا عبر في لقطات تسجيلية بسيطة. أما الفيلم الثاني فقد كان فيلماً تسجيلياً بعنوان (محاكمات محمد علي) قدم فيه المخرج بيل سيجل قصة المعارك القانونية التي خاضها محمد علي في هذه الفترة ولكن من زاوية رؤية محمد علي والمحيطين به، ولا شك عندي أن نجاح الفيلمين كان سبباً في تشجيع صناع هذا الفيلم على المضي قدما فيه، وأظن أن سلسلة الأفلام والأعمال التلفزيونية التي قدمت عن علي والتي تتجاوز العشرين عملاً، تصلح لتكون موضوعا لدراسة مهمة حول طريقة التناول الفني بأساليب مختلفة لشخصية تاريخية واحدة.
منذ اللحظة الأولى يحرص فيلم (أنا علي) على أن يبرز الوجه المرح لمحمد علي كلاي الذي كان مشهوراً بتألقه في البرامج التلفزيونية التي كان ظهوره فيها يضمن لصناعها أعلى نسب المشاهدة، حيث نرى في أول مشهد من الفيلم جزءاً من برنامج تلفزيوني قديم يقوم فيه علي بتقليد صوت سيدة، في حين يقوم عدد من الشخصيات العامة الذين تم عصب أعينهم بتخمين شخصيته، وبعدها مباشرة ينقلنا الفيلم إلى وجه إنساني آخر لمحمد علي كلاي هو وجه الأب الحنون، حيث نسمعه في أول مكالمة تليفونية مسجلة يقدمها الفيلم وهو ينطق تاريخ تسجيل المكالمة قبل الإتصال "30 نوفمبر 1979"، قبل أن تجيبه والدة زوجته السابقة ليكلمها بمودة بالغة، ثم يطلب منها أن تعطي الهاتف لابنته مريم التي كانت وقتها في الحادية عشرة من عمرها، ليعلن لمريم أنه قرر العودة إلى الملاكمة ثانية، فتقول له بتلقائية: لا تلاكم ثانية لقد أصبحت كبيرا على الملاكمة وأنا أخاف عليك، يضحك ويقول لها: هل تعرفين كم عمر والدك؟، فتقول له: 37 عاما، فيقول لها: هذا صحيح، ثم يحكي لها كيف بدأ ممارسة الملاكمة حين كان في الثانية عشر من عمره، عندما سرق أحدهم دراجته حين ذهب مع أخيه لحضور احتفال أقيم في بلدتهما لويزفيل، وحين ذهب لكي يبلغ ضابط البوليس الموجود في مبنى الاحتفال، اكتشف أنه يقوم بإدارة مركز للتدريب على الملاكمة، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها مكاناً مثل ذلك، وحين تحدث مع المشرف على المكان عرض عليه أن يأتي لتعلم الملاكمة، لتبدأ قصته مع الملاكمة منذ تلك الواقعة، وتتواصل حتى مباراته الأخيرة التي تمت بعد مكالمته مع ابنته بعامين، حين كان على مشارف الأربعين، ومع ذلك قرر مواجهة مواجهة اللاعب تريفور بيربيك الذي كان وقتها في السابعة والعشرين من عمره.
تقسم مخرجة الفيلم مقاطع فيلمها حسب توصيف الشخصيات التي تقوم بالإلتقاء بهم، معطية لكل شخصية لقباً يلخص علاقته بمحمد علي، وتبدأ ب مدير أعماله جين كيلروي الذي بدأت علاقته بعلي حين اشتراكه في دورة الألعاب الأولمبية في روما عام 1960، والذي يحكي كيف تعلم كثيرا من محمد علي، وكيف كان أسعد حظاً من مليونيرات كانوا مستعدين لدفع ملايين لكي يقضوا يوما واحدا من أيامه التي قضاها مع محمد علي، قائلاً أن أكثر كابوس يراه في منامه وقد تجاوز الثمانين من عمره وقت إجراء المقابلة، أنه يرى في المنام نفسه طفلاً وأمه توقظه من النوم لتقول له أن حياته كلها كانت حلماً، وأنه لم ير محمد علي ولم يعش معه كل تلك اللحظات السعيدة.
بعدها يلتقي الفيلم بشقيق محمد علي الأصغر رحمان ليحكي عن علاقته الطويلة والوثيقة بأخيه التي بدأت منذ كانا طفلين في لويزفيل بولاية كنتاكي، حيث ولدا لعائلة مسيحية متدينة، وكان والدهما كاشيوس كلاي رساما يعمل في مجال الإعلانات، ونرى أول ظهور لوالده ووالدته أمام الكاميرات، بدا فيه محمد علي ملتصقاً أكثر بوالدته التي أصبح عندما كبر نسخة تكاد تكون مطابقة لها.
كان بين محمد علي وشقيقه الأصغر فارق بسيط هو 18 شهرا فقد ولد محمد علي في 1942 وولد رحمن في 1943، يقول رحمن عنه: "كان منذ اللحظة الأولى مختلفا، ولد للعظمة، كان ظريفا ولا يتوقف عن الأفكار أبدا، كنت أحب دائما أن أذهب معه إلى أي مكان، كنا لا نفترق أبدا، مثل الملح والفلفل"، ثم يحكي كيف بدأ محمد علي بشكل فطري في تدريب نفسه على أسلوب خاص به في الملاكمة، فكان يقف في زقاق صغير مجاور لبيتهما، ويطلب من أخيه أن يرميه بالأحجار بقوة ويقوم هو بتفاديها في آخر لحظة، لتكون تلك بذرة أسلوبه الفريد في اللعب، والذي لخصته العبارة الشهيرة: "يطير كالفراشة ويلدغ كالنحلة"، وكان وقتها يتعرض للسخرية من كل رفاق طفولته، لكنه كان يقول لهم بثقة شديدة: سأكون بطلا للعالم وسأعود يوما ما لكي أريكم ذلك، وهو ما حدث بالفعل.
يلتقي الفيلم بعدها مع أنجيلو دندي أول مدرب لمحمد علي الذي كانت قد انقطعت علاقته بمحمد علي لفترة، لكنه فوجئ ذات يوم من أيام 1958 بمكالمة من محمد علي يقول له إنه كسب بطولة مهمة في سياتل، وأنه ذاهب للمنافسة في الأولمبياد وسيكسب اللقب، ويريده أن يساعده على ذلك، ليستأنف علاقته به من جديد، وبعد أن عاد محمد علي من الأولمبياد حاملا اللقب، حرصت مؤسسة لويزفيل التي قررت تبنيه على اختيار واحد من أشهر المدربين في أميركا لتدريبه، اعتقاداً منها أن دندي مدرب من الدرجة الثانية لا يليق بمستقبل علي المنشود، وحين ذهب محمد علي إلى ذلك المدرب الشهير، طلب المدرب منه باستعلاء أن يقوم بمسح مطبخه، فرفض محمد علي وقال له: أنا لم أمسح مطبخ أمي فلماذا أفعل ذلك معك، وغادر محمد علي غاضباً، لتجد إدارة المؤسسة نفسها مجبرة على التعاون مع مدربه القديم، والذي بدا لهم أنه قادر على الإمساك بمفاتيح التعامل معه، وهو ما حدث بالفعل، وبدأ محمد علي رحلة تدريبه الشاقة، ولأنه كان وقتها فقيراً جدا، فقد كان يذهب إلى مركز التدريب البعيد عن بيته جرياً، وذات يوم قبض عليه البوليس لأنهم اعتبروا أن جريه في وقت مبكر على شاطئ البحر مثير للشبهات، ولم يصدقوا حين قال لهم إنه ملاكم حاصل على الميدالية الذهبية في الأولمبياد، واتصلوا بمدربه للتأكد من ذلك، ولم يتم إخلاء سبيل محمد علي إلا بعد أن أكد لهم أنه يقوم بتدريبه.
قصة مهمة يرويها الفيلم حدثت وقائعها في ابريل 1968، في ظل حملة إعلامية شرسة كانت تستهدف محمد علي وتتهمه بالخيانة لوطنه، ونجحت في التأثير على شعبيته بين الأميركيين، وهو ما استفز الصحفيين كارل فيشر وجورج لويس المسئولين عن تحرير مجلة (اسكواير) الشهيرة، وجاءت الفكرة لجورج لويس أن يقوم بتصوير محمد علي بوصفه شهيدا لمبادئه وأفكاره ومعتقداته، وفكر في أن يقوم بتنفيذ صورة غلاف تظهر محمد علي في وضع مشابه للوحة الشهيرة التي تظهر القديس سان سيباستيان وهو يتلقى الأسهم في جسده دفاعا عن مبادئه. اتصل جورج لويس بمحمد علي ليحضر إلى نيويورك، وعندما التقى به وأراه صورة القديس سان سيباستيان وشرح له الفكرة وهو متحمس جداً فوجئ بمحمد علي يقول له مبتسماً: "لكن هذا الشخص مسيحي وأنا مسلم ولا يصح أن أصلب مثله".
فوجئ لويس بالرد ووجد أن محمد علي معه حق في تحفظه من الناحية الدينية، لكنه لم يفقد الأمل في تنفيذ الفكرة، وطلب من محمد علي أن يتصل بمرشده الروحي إليجا محمد ليشرح له الفكرة، وفي مكالمة دامت 15 دقيقة لكنها كانت ممتعة، كما يقول لويس، الذي يتمنى لو كانت تلك المكالمة مسجلة كمكالمات محمد علي ليستمتع الناس بها مثله، وفي نهاية المكالمة أعلن إليجا محمد موافقته على الفكرة وقال إن هدفها مهم ونبيل، وبدأ التحضير للصورة التي أخذ التقاطها وقتا طويلاً، بسبب صعوبة أن تبقي محمد علي ثابتاً لفترة طويلة، ولذلك كانت الأسهم تسقط من جسده فور تركيبها، لكنه كان سعيداً بالفكرة ومتحمساً لها، وكان حضوره مبهجاً لجميع العاملين في المجلة.
يتذكر جورج لويس أن محمد علي أثناء وقوفه بملابس المكالمة والأسهم ملتصقة بجسده، نظر إلى جورج لويس وقال له: "هيه جورج انظر"، ثم أخذ يشير إلى كل سهم من الأسهم الستة، ويردد اسم واحد من أبرز قادة الحملة الرسمية الشرسة ضده: " ليندون جونسون، جنرال ويستمورلاند، روبرت مكنمارا، دين راسك، كارل كليفورد، هيوبرت همفري"، ليعلق جورج لويس على ذلك قائلاً: "نظرت إليه بذهول وقد صعقت بذكائه وبراعته، فقد كان هذا بالضبط ما يجب أن توصله الصورة للناس"، وبالفعل نجحت صورة الغلاف في ذلك، وأصبحت حديث العالم فور صدور المجلة في ابريل 1968، يتذكر جورج لويس كيف كان الكثيرون يأتون إليه ليقولوا له إن ذلك الغلاف نجح في تغيير حياتهم، فقبله كان يسود اعتقاد شعبي أنك إذا لم ترد الذهاب إلى حرب فيتنام، فأنت خائن أو جبان أو حتى غريب الأطوار، لتأتي صورة الغلاف تلك لتكرس الملاكم الذي رفض القتال كأيقونة للشخص الذي يرفض التخلي عن مبادئه مهما كان الثمن، ليقول لويس بعد مرور كل تلك السنين: "أنا فخور بتلك الفكرة ليس فقط لأنها أسهمت في الدفاع عن محمد علي وإنما لأنها كان لها أيضا دور فعال في الحملات المناهضة لحرب فيتنام".
...
نكمل غدا بإذن الله.