نهاية عام وبداية آخر لحظة يستغلّها نقّاد وصحافيون سينمائيون، عربٌ وأجانب، لاستعادة ماضٍ واستشراف، أو محاولة استشراف مُقبل من الأيام. عادة مهنيّة قديمة، كتلك التي تتمثّل بوضع "نجوم" على الأفلام، اختصاراً لرأي لن يكون نقدياً، بل مجرّد تعبير عن انفعالٍ، ربما يتبدّل بعد وقتٍ، قصير أو طويل. مع نهاية 2019 وبداية 2020، يُناقَش عربياً ما له علاقة بعقدٍ من الزمن: أينتهي العقد مع نهاية 2019، أو يُفترض بالجميع انتظار نهاية العام 2020؟ مجلاتٌ أجنبية تُقدِّم لقرّائها خلاصات نقدية وانفعالية لنقّاد وصحافيين سينمائيين، عاملين فيها، إزاء الأعوام العشرة السابقة. عربٌ عديدون يفعلون الأمر نفسه، إنْ يكن هذا منفتحاً على السينما في العالم، أو يبقى محصوراً في الجغرافيا السينمائية العربية، أو ينزوي في السينما المحلية.
هذه "لعبة جميلة"، إنْ يتمّ التعاطي معها كـ"نزوة ثقافية" (أيصحّ تعبيرٌ كهذا؟). أصالة الأفلام غير مرتبطة بأعوامٍ وتواريخ، وإنْ تكن الأعوام والتواريخ مهمّة، فهي انعكاس للحظة إنجاز الصنيع السينمائي، بما هي عليه من حالة أو مزاج أو اضطراب أو قلق يعيشه السينمائيّ، ما يُتيح متابعة مساره المهنيّ لتبيان تطوّر أو مراوحة أو تبدّلات في الشكل والمضمون، وهذه التبدّلات جزءٌ من اختبارات يريدها السينمائي.
مهنة الصحافة تتطلّب أفعالاً كهذه (اللعبة الجميلة)، مع أنّ تجارب سابقة ونادرة في صحفٍ ومجلات عربية تحاول تقديم جديدٍ مختلف، كأنّ يتناول صحافي أو ناقد سينمائي، يعملان في صحيفة أو مجلة، "قضية سينمائية" تَسِم العام الآيل إلى الأفول. عربٌ نادرون هم الذين يختارون "قضية العام"، رغم أنّ السينما متورّطة بأحوال الاجتماع والثقافة والسياسة والأمن والاقتصاد والأفكار والفنون وغيرها، وهذه كلّها تُثير قضايا لن تنأى السينما بنفسها عنها. عربٌ قليلون هم الذين يختارون "سينمائيّ العام"، على غرار مجلات أجنبية عريقة، تمنح غلاف أحد أعدادها الأخيرة من العام الذي ينتهي لشخصية ما، لأسبابٍ عديدة (لا شكّ في أنّ الأسباب عرضة للنقاش). لن يكون ضرورياً قيام تلك الشخصية بفعلٍ إيجابيّ، فالسلبيات تجعل الشخصية فاعلة ومؤثّرة أيضاً في الاجتماع والحياة والتفاصيل. ألا يُمكن للمنتج الأميركي هارفي وينستين، مثلاً، أنْ يكون "شخصية العام" (2017)، فأفعاله المنكشفة فجأة مؤثّرة بصناعة السينما، لطرحها أسئلة كثيرة عن الصمت والاعتراف والعلاقات والمهنة والسلطة والغرائز؟ أفعال ربما تكون جزءاً من شخصيته وتكوينه النفسي، لكنّها منبثقةٌ من تكوين اجتماعي ـ مهنيّ ـ اقتصادي متكامل، معمولٌ به في صناعة السينما، وربما في غيرها من الصناعات.
العرب منفضّون سينمائياً عن "قضية العام" و"شخصية العام"، غالباً. الغليان الرائع، الذي تشهده صناعة سينماهم في بلدان مختلفة، مرآةٌ حيّة تعكس وقائع وتفاصيل. أفلامٌ كثيرة، مُنتجة في الأعوام العشرة الأخيرة على الأقلّ، تغوص في أحوال فردية وارتباكات جماعية. تعود إلى التاريخ، أو تنبش في الراهن، أو تُفكِّك السياسي والاجتماعي والنفسي، ومعظمها يلتزم اشتغالات سينمائية باهرة ومُثيرة لمتع ونقاشات. أفلامٌ تتحرّر من وطأة الأيديولوجيا والامّحاء الفرديّ في الجماعات، لتركيزها على الفرديّ البحت، وهذا منبثقٌ من اشتغالاتٍ سينمائية أقدم، تتمثّل بمحاولات فردية لمخرجين قليلي العدد حينها. ألا يُحرِّض هذا على تبيان "قضية" ما تصلح لأنْ تكون "قضية العام"، بأسئلتها ومناخاتها وجمالياتها؟ وأيضاً لا اهتمام بـ"شخصية العام"، بل بأمزجة نقّاد وصحافيين سينمائيين ينتقون أفلاماً يرونها الأنسب لهم، فيعتبرونها الأفضل، ثم يُقدّمونها إلى الآخرين كـ"ضرورة" لن يستقيم العيش من دون التنبّه إليها ومشاهدتها.
اختيار الأفضل في عامٍ أو 10 أعوام أو دهر سينمائي مرتبطٌ بمزاج فرديّ بحت، يتغلّب إجمالاً على مسائل أساسية، تصنع جمالية الفيلم وبهائه وحيويته. يحصل إجماعٌ أحياناً، وهذا صحّي وطبيعي ينبعان أساساً من "قوّة" الفيلم، وتمكّنه من فرض نفسه. لكن الغالب كامنٌ في مزاج شخصيّ، يعتقد صاحبه أنّ خياراته لا تُناقش، وأنّ انتقاءه فيلماً أو أكثر "درسٌ" للمُشاهدين في كيفية المُشاهدة والتفاعل. مجلات أجنبية تُتيح لقرّائها مساحة لاختياراتهم، وهذا أفضل وأهمّ في مناسبة كهذه، فالقرّاء مشاهدون، وآراؤهم واختياراتهم تُفيد في فهمٍ مختلفٍ لمسارات الإنتاج والاشتغال والتطوير. لكن، أتوجد مجلات سينمائية عربية تؤثّر فعلياً في المشهد السينمائي العربي، فتُتيح للجميع، نقاداً وصحافيين سينمائيين ومشاهدين وعاملين في الاشتغالات السينمائية العربية، مساحة تعبير مختلف عشية نهاية كلّ عام؟ يُمكن لسؤال كهذا أنْ يكون "موضوع العام" أيضاً. فالمجلات الصادرة في مدنٍ عربية توزَّع في المدن التي تصدر فيها، وهذا قاتلٌ لأيّ مشروع أو تفكير أو تحليل أو نقاش أو تواصل. أما مناقشة المجلات، أشكالاً ومضامين، فأمرٌ آخر.
هذه كلّها تساؤلات. لا أجوبة ولا حسم، بل نقاشٌ مطلوب. مع هذا، تبقى فكرةُ اختيار أفضل الأفلام متعةً وتسليةً. لعلّ الاختيار يُنبِّه مهتمّاً (ناقداً أو صحافياً سينمائياً أو مُشاهداً، وغيرهم)، فيُشاهد فيلماً مختاراً غير مُشاهِدٍ إياه سابقاً. أو ربما يدفعه إلى مُشاهدةٍ إضافية للمُشَاهَد قبلاً، وهذا حسنٌ وجميلٌ.
أما "قضية/ شخصية العام" في السينما العربية، فمسألة يسهل التعامل معها، لأنّ مسائل عديدة مطروحة، أقلّه في الأعوام الـ10 السابقة، تستحق أنْ تكون "قضية العام"، ولأنّ سينمائيين عرباً كثيرين يُمكن أنْ يكون أحدهم "شخصية العام"، وربما "شخصية كلّ عام": إيليا سليمان، كوثر بن هنية، غسان سلهب، آن ـ ماري جاسر، هشام العسري، أحمد عبد الله السيّد، سارة فتّاحي، علاء الدين سليم، فراس فياض، وعشرات غيرهنّ وغيرهم.
أسماءٌ لن تُلغي أخرى، فهذه أمثلة (لعلّها منبثقة من مزاج نقدي وانفعالي أيضاً). نبض السينما العربية تجديديّ في الآونة الأخيرة، وتجاربها المختلفة عديدة، وأسئلتها المطروحة (جمالياً وفنياً ودرامياً وإنسانياً وتقنياً) تحرّض على متابعة ومشاهدة ونقاش، وهذا مهمٌّ.