تركيا وصراع الهُوِيّات

13 اغسطس 2016

طلاب يشكلون بأجسادهم خريطة تركيا في اسطنبول (29 إبريل/2016/Getty)

+ الخط -
تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا فريدة في العالمين العربي والإسلامي، وهذا اعتقاد يتأسس خارج الفهم الثنائي التقابلي للتأييد أو الرفض، إذ يستند إلى جملة عوامل وقائعية متعيِّنة في هذه التجربة، أهمُّها ربّما احتلال تركيا المركز الرابع عشر على مستوى الاقتصاد العالمي، وما يحمله هذا من دلالاتٍ تأتلف مع تقديمها أنموذجاً، مقبولاً حتى هذه اللحظة، للتعايش بين حزبٍ له خلفية هُوِيّاتيّة إسلامية مع ليبرالية اقتصادية ونظام ديمقراطي طالما عانى من مخاضاتٍ وهزات عنيفة، طوال عقود ظهَر فيها جلياً تغوُّل الجيش على الحياة السياسية، من دون أن ننسى ثقل هذا الجيش الذي يحتل المركز الثاني من حيث الحجم والقوة في حلف الأطلسي (الناتو).
من المؤكد أن التركيبة الديمغرافية إثنياً وطائفياً وطبقياً في تركيا معقدة، ولم تنفصل منذ تقاسُم تركة الرجل المريض، ثم الانتقال إلى مشروع الجمهورية العلمانية الأتاتوركي، عن الأسئلة الملحة في المشرق العربي والإسلامي، بخصوص قضايا، مثل الهُوِيّة والمُواطَنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والنهضة والتنمية.
وفي هذا الإطار، كان من الواضح أن طرح العلمانية الأتاتوركية حاولَ أن يُنجز قطيعةً وطنيةً مع الموروث الديني التاريخي للدولة العثمانية، لكنَّ هذا التوجه لم يُخمِد التناقضات العميقة في البنية الاجتماعية، إذ ظلَّ الصراع في هذا المضمار ينوس بين القبول الظاهري الذي يُخفي الجمر تحت الرماد، وتصاعُد توتُّرات الصراع والمواجهات السلطوية مع التيارات الإسلامية التي انتهَتْ، أكثر من مرة، إلى الإجهاز على صُعودها، وإقصائها عن السلطة، كما حدث مراراً مع حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان.
ويزداد الموضوع تعقيداً في ضوء التداخل البنيوي بين العلمانية الأتاتوركية والجيش التركي، الذي طالما مثَّلَ حاميَ هذه العلمانية رمزياً، وعامل إخصاء لتوجُّهاتها الديمقراطية عمَلياً في انقلاباته الأربعة المعروفة، وحُضوره الطاغي في الفضاء السياسي العام.
وفضلاً عن هذه الإشكالية، تتجذر القضيتان (الكردية القومية) و(العلوية الدينية) في قلب
مَحاوِر الصراع الاجتماعي والسياسي، لتكون هاتان المسألتان مصدر اضطرابٍ هُوِيّاتي دائم، واستقطاباتٍ حزبية وسياسية مُتعددة، من دون حسم جدِّي يسعى إلى وضع حلول وطنية لهذين الاستحقاقين، وإن كانت سياسات الرئيس (ورئيس الوزراء الأسبق)، رجب طيب أردوغان، التي قامَتْ، منذ البداية، على نظرية رئيس الوزراء السابق (ووزير الخارجية الأسبق)، أحمد داود أوغلو، في (تصفير) المشكلات داخلياً وخارجياً، قد اتّسمَتْ ببعض المرونة والمحاولات الجادّة لفتح كوىً تخترق الملفات المُعقَّدة لهاتين القضيتين.
لعلَّ المشهد التركي الحديث، إنْ عبرَ عقوده المُمتدة حوالى قرن، أو بعد انفجار ثورات الربيع العربي، أبدى تشابُهاً بالغاً، وتقاطعات جمّة مع الإشكاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي واجهَها ويُواجهُها العالم العربي الذي بدأتْ أطروحات النهضة فيه منذ أواخر العهد العثماني. وبهذا المعنى، مثَّلَتْ التجربة التركية الطويلة، والمُتوَّجة بحكم حزب العدالة والتنمية، مثالاً مُوحياً لدى قطاع عربي وإسلامي واسع، في مُقابل تيار آخَر، لا يُخفي عداءَهُ وريبتَهُ من هذه التجربة، بما يرتبط عميقاً بالمُناخ العالمي المحكوم في حقبة ما بعد الحرب الباردة بسطوة (الإسلاموفوبيا)، وهذا يظهَرُ عمَلانيّاً في مسألة العلاقات التركية المُتذبذبة مع الاتحاد الأوروبي تحديداً، والذي يبدو أنه ما زال غير جاهزٍ لتجاوز إسلاميّة تركيا من ناحية، فضلاً عن رغبته المُلتقية مع القطبين، الأميركي والروسي، في تحجيم الدور التركي إقليمياً ودولياً. ولذلكَ، وجَدنا كيف وجِّهَتْ أصابع الاتهام إلى الطريقة الباردة التي تعاطى بها الغرب مع الانقلاب الأخير المُخفِق، مما دفع رئيس الحكومة بنعلي يلدرم إلى التصريح، فيما يُشبه التأنيب المُوجَّه إلى أكثر من طرف خارجيّ، قائلاً: "تركيا ليستْ من جمهوريات الموز، ولا من دول العالم الثالث".
ويبدو أن محاولة الانقلاب، أخيراً، ستفتح الآفاق الجيوسياسية الداخلية والإقليمية والدولية على مخاضاتٍ لن تكون سهلة، ولهذا صلة وثيقة بالترابُط الوثيق مع مآلات الربيع العربي إن بما يخصّ الملفّ السوري، ولا سيما أزمة اللاجئين، وقضايا مُحاربة الإرهاب، مروراً بما يخصّ الوضع الهش في مصر وسياسات دول الخليج المرتبكة تجاه تركيا، وانتهاءً بالدورين الإقليميين لإيران وإسرائيل.
فإذا كان المآل الأوَّليّ لهذا الانقلاب قد منح أردوغان وحكومته فرصة استثنائية لترسيخ شرعيتهم الديمقراطية، وضرب المُنقلبين بيدٍ من حديد، فإنَّ هذا الخَيار الذي يجده بعضهم لا يخلو من التمادي والقمعيّة يُعيد فتح الأبواب عريضةً للتساؤل واستنطاق مشكلة الهُوِيّات التعددية التي طالما كان من المُفترَض أن تُؤخذ بالاعتبار، في العالمين العربي والإسلامي، من دون أن يتناقض ذلك مع مشروع العلمانية والديمقراطية وحرية التعبير.
ومن زاوية ثانية، تُظهِر الحالة التركية حالةً من القلَق، أو من عدم الارتياح لدى الغرب وبعض الأنظمة العربية، لما تشكِّلُهُ هذه التجربة من قدرةٍ على أن تكون مثالاً جاذباً يحتذيه العرب والمسلمون في خَلْق تعايُشٍ بنّاء بين هُوِيّة إسلامية مرنة ومُنفتحة على العصر، وعلمانية ديمقراطية ليبرالية، وهيَ مسألة شديدة التشابُك، في الوقت نفسه، مع هواجس الهُوِيّات الإثنية والطائفية التي يُمكن أن نلاحِظَ حجمَ صداماتها في المنطقة عبر تشظي الحدث السوري الذي انطوى على دورٍ بارز في إقلاق الاستقرار التركي وخلخلته، في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد حادثة إسقاط المُقاتلة الروسية.
نجاح أردوغان أخيراً في إزاحة خطر العسكر عن المشهد السياسي إلى أجلٍ غير قصير من
حيث المبدأ، ليس كافياً وحده لضمان استمرار تجربته الفريدة، إن لم يقترن ذلك بآليّة كبح ذاتية حذرة وحكيمة، تهدف إلى طمأنة التيارات السياسية الشريكة في البرلمان والحياة السياسية، وكذلك في طمأنة القواعد الإثنية والمذهبية الأخرى، صاحِبة الرؤى التي لا تخلو من مشاعر المظلومية التاريخية؛ ليسَ فقط على مستوى الخطاب العام، وتقييد البُعد التبشيري، إنَّما أيضاً على مستوى ترسيخ عقد وطني جامع، ينزع صاعق هذه القنابل الداخلية الموقوتة نهائياً، ويسحبُها من يد التداول الخارجي، ليؤكد هذا أن تحجيم سلطة العسكر لن يُقابله تعزيز لسلطة الدين، بل يُمكن للأتراك أن يوازنوا بين الهُوِيّات المُتعدِّدة من جانب، والديمقراطية والمُواطَنة وحكم القانون من جانب ثان، من دون أن يتناقض ذلك مع الهُوِيّة الإسلامية الكبرى، بوصفها خلفية اجتماعية عريضة، وفضاء ثقافيّاً مُتجذراً وقابلاً للائتلاف مع بنية مؤسساتية علمانية ديمقراطية، كما نشاهد في أحزاب مسيحية كثيرة في الغرب، وكما أظهَر لنا الشعب التركي في رفضه الانقلاب، وهذا هو امتحان أردوغان الحقيقي القادم كما ستكشف لنا الأيام.
026CBA94-6F42-4210-B8BF-F9336FE8469C
026CBA94-6F42-4210-B8BF-F9336FE8469C
مازن أكثم سليمان

كاتب وأديب سوري، دكتوراة في الأدب من جامعة دمشق، له إصدارات في النقد والشعر.

مازن أكثم سليمان