تركيا وإسرائيل: العلاقة الوثيقة

04 يوليو 2016

غزة تحيي الذكرى الخامسة للاعتداء على "مرمرة" (31 مايو/2015/الأناضول)

+ الخط -
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عن تفاصيل الاتفاق مع تركيا، لإعادة العلاقات إلى حرارتها السابقة. شدَّدَ على أن للاتفاق أهمية استراتيجية للكيان الصهيوني، وعدَّدَ بعض ملامحه المفيدة، من قبيل إسقاط تركيا الدعاوى القضائية بحق قادة جيش الاحتلال وجنوده، حالياً ومستقبلاً، وإبقاء الطوق الأمني المفروض على غزة، لمنع حركة حماس من تعزيز قدراتها العسكرية، مع السماح بمساعداتٍ إنسانية تركية، تحت إشرافٍ إسرائيلي، تصل إلى ميناء أسدود، ثم تنقل من هناك إلى غزة. أكَّدَ التزام تركيا بمنع أي نشاط عسكري أو "إرهابي" لحركة حماس من الأراضي التركية، بما في ذلك جمع الأموال لهذه الأنشطة، كما أشار إلى مكاسب اقتصادية من وراء الاتفاق، من أهمها موضوع الغاز، حيث يمكن لإسرائيل إمداد أوروبا بالغاز عبر تركيا.
في مقابل هذه المكاسب الإسرائيلية، حصلت تركيا على اعتذارٍ إسرائيلي عما جرى بخصوص السفينة مرمرة، موضع الخلاف، إضافة إلى تعويضاتٍ لعائلات الضحايا قدرها عشرون مليون دولار، وإمكانية إدخال مساعدات إنسانية لغزة تحت الإشراف الإسرائيلي عبر ميناء أسدود، فيما تخلى الأتراك عن مطلب رفع الحصار عن غزة. التنازلات التركية، وقبلها فكرة العودة إلى تطبيع العلاقات بذاتها، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مسألةٍ معيشيةٍ تتعلق بالحصار وإدخال المساعدات الغذائية، كلها لم تثر نقداً كبيراً عند جمهور الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من الإسلاميين العرب الذين انقسموا بين من تجاهل الأمر برمته ومن برَّرَه من باب الاضطرار، ومن امتدح (النصف المليء) من الاتفاق، والانتصار التركي لغزة في إدخال مساعداتٍ إنسانية، وبعض منظري الإسلاميين أشاد بحنكة أردوغان مع إلقاء اللوم على العرب وتآمرهم. ويسوق هؤلاء المشروع التركي في الوطن العربي، ويتجاوزون إشكالاته مهما كبرت، ويتقدّم عندهم التعصب لرمزية أردوغان بالنسبة لهم على الشعارات التي يرفعونها، معلقين الآمال بنهضةٍ إسلاميةٍ يقودها السلطان العثماني الجديد.

لكن دعايتهم لا تتمكّن من إخفاء حقيقة التنازل التركي، والاندفاع إلى تسوية ملف مرمرة مع إسرائيل، وهو قد يدلّ على ورطة تركيا، في ظل سياستها التي لم تبقِ مشكلةً إلا فجَّرتها، وخصومتها مع معظم الأطراف الفاعلة في الإقليم، وفشل رهاناتها الخارجية، وأزماتها الداخلية. وقد وصل الاندفاع إلى مرحلةٍ يصرّح فيها أردوغان، بعد إعلان الاتفاق، أن منظمي رحلة السفينة مرمرة لم يأخذوا الإذن منه قبل الإبحار إلى غزة. وقبل ذلك، مهَّد أردوغان للاتفاق بالحديث عن حاجة الطرفين (تركيا وإسرائيل) لبعضهما. لهذه اللهفة التركية على عودة الحرارة للعلاقة مع إسرائيل أسبابٌ تتعلق بالوضع الحالي، وأزمات تركيا، لكن هذه العلاقة لم تنقطع تماماً حتى في السنوات الست الماضية، وهي أساسيةٌ في رؤية حزب العدالة والتنمية، وليست تركة ورثها الحزب الحاكم حالياً من سابقيه في السلطة، كما كان يردد إسلاميون عرب كثيرون مولعون بحزب العدالة والتنمية.
في كتابه "العمق الاستراتيجي"، يشير أحمد داود أوغلو، منظّر السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية، إلى العلاقات التركية الاسرائيلية، بوصفها عنصراً مهماً في سياسات المنطقة وتوازناتها. في التنظير والتطبيق، لم يحاول الحزب التخفف من العلاقة مع إسرائيل، إلا في الخطاب العام الموجه للوطن العربي، حيث العمق التاريخي بتعبير أوغلو، وفيما عدا ذلك، حرص على استمرار العلاقة وتقويتها، إرضاءً للحلفاء في الغرب من جهة، وللإفادة من تأثيرات اللوبي الصهيوني في الغرب، لمواجهة حروب اللوبيين اليوناني والأرمني ضد تركيا.
هكذا، لم تنقطع العلاقات التركية الإسرائيلية مع وصول الحزب الإسلامي إلى سدة الحكم عام 2002، بل تطورت، فزاد حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل، وتوثّق التعاون العسكري، إلى درجة أن إسرائيل صارت المصدّر الثاني للتقنية العسكرية المُصدَّرة إلى تركيا، بعد أميركا. تطورت العلاقات السياسية والدبلوماسية وتُوِّجت بإلقاء الرئيس الإسرائيلي السابق، شيمون بيريز، كلمة أمام البرلمان التركي عام 2007، في سابقةٍ هي الأولى من نوعها في بلدٍ ذي غالبية مسلمة. حتى في سنوات التوتر الماضية بعد حادثة "مرمرة"، استمر التبادل التجاري بالنمو، وتركيا هي سادس شريك من حيث حجم التبادل التجاري مع إسرائيل عام 2015، كما أن العلاقات الدبلوماسية لم تنقطع نهائياً، والسفارات لم تُغلق، وقد حصل تعاون عسكري عام 2013، بتزويد شركة إيلتا الإسرائيلية تركيا بأجهزةٍ متطورةٍ، ترفع قدرات طائرات الإنذار في سلاح الجو التركي.
عودة الحرارة إلى علاقة تركيا بإسرائيل عبر اندفاعٍ تركي، يؤكد المؤكَّد، من حيث اعتبار العلاقة مع إسرائيل مهمة استراتيجياً لأردوغان، لا تركةً ثقيلةً يَتُوق للخلاص منها، بحسب دعاية أنصاره العرب. ويتلخص موقفه من القضية الفلسطينية في نبرة خطابية عاليةٍ، لكسب ود الرأي العام العربي من جهة، والدعوة إلى تسويةٍ مع إسرائيل، تكون حركة حماس شريكاً فيها من جهة أخرى.
يتعلق الموقف التركي من إسرائيل وغيرها بالمصالح القومية التركية، لكن المشكلة في أنصار المشروع التركي من العرب الذين يريدون إقناعنا بتطابق المصلحة التركية مع العربية (وهذا غير ممكن أصلاً)، فيما الموقف التركي من قضية العرب المركزية بهذا الشكل. إذا كانت فلسطين معياراً مركزياً في الحكم على المواقف والأطراف الفاعلة في الإقليم، فلن تكون تركيا حليفاً وثيقاً للعرب ومصالحهم، ولمقاومتهم الاحتلال الصهيوني.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".