تركيا.. نحو تمثيل سياسي أوسع في حكوماتها

20 ابريل 2019

مناصرون لحزب الشعب يحتفلون في اسطنبول بفوز مرشحهم (17/4/2019/Getty)

+ الخط -
كان حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا منذ نحو 17 عاماً، بحاجة إلى صدمة الانتخابات البلدية، كي يتذكّر أن ثمة تعددية في الخريطة السياسية والحزبية للبلاد، تعكس تنوعا اجتماعيا وثقافيا وعرقيا، وأنه يصعب الجمع بين الأخذ بآليات ديمقراطية، والتغاضي عن الموزاييك السياسي والاجتماعي الذي ما انفكّ يطبع بلاد الأناضول منذ انهيار الامبراطورية العثمانية قبل أزيد من قرن.
لم تكن نتائج الانتخابات كارثيةً على أحد، فقد احتفظ حزب العدالة والتنمية بالصدارة، ومع فارق كبير عن الحزب االرئيسي في المعارضة (حزب الشعب الجمهوري)، فيما ظفر حزب المعارضة بالمدن الكبرى الثلاث: أنقرة وإسطنبول وإزمير. وقد بدت إسطنبول، بخلاف المدينتين الأخريين، عزيزة جدا على قلب حزب العدالة، وذلك لرمزيتها عاصمة سابقا للامبراطورية، ولمكانتها الاقتصادية والسياحية، ولرمزيتها الثقافية الدينية (3269 مسجداً) ولافتتاح أكبر مطار في تاريخ تركيا فيها أخيرا. ولأن المرشح لرئاسة البلدية، بن علي يلدريم، هو أحد قادة الحزب، وآخر رئيس وزراء قبل أن "تضحّي" التعديلات الدستورية بمنصب رئيس الوزراء. هذا خلافا لأنقرة، العاصمة الحالية وعاصمة الدولة التي اختارتها العلمانية الأتاتوركية منذ العام 1932 (مع ذلك تضم زهاء 2955 مسجدا).
وكان من المثير أن ينشغل رأس الدولة بانتخابات إسطنبول، وأن يتقدّم إلى الجمهور بصفته 
رئيس حزب معنيٍّ بنجاح مرشحه، بما جعله يخاطب جمهور حزبه حصرا من دون غيرهم، بدلاً من مخاطبة الشعب من موقعه رئيسا لكل الأتراك (80 مليون نسمة). وتمتد الإثارة إلى الظهور بمظهر عدم الرضى عن مجمل النتائج، بل وتوجيه اتهاماتٍ بالتزوير في انتخابات إسطنبول، وهو اتهامٌ يطاول أجهزة الدولة، وآلية الضبط فيها، قبل أن يطال أي طرف آخر، وذلك في حال صحة الاتهام. ومع ذلك، حقق يلدريم نتائج جيدة، إذ لم تفصله سوى بضعة آلاف صوت عن المرشح الفائز، أكرم إمام أوغلو.
لا تستقيم الديمقراطية مع حزب واحد يحكم البلاد، حتى لو تصدّر عبر صناديق الاقتراع، فتمثيل الأقلية شرط لنجاح الديمقراطية، فكيف حين تكون المعارضة أكبر وأوسع من مجرد أقلية، ونفوذها يتنامى في المدن الكبيرة التي تضم مختلف أصناف الخبرات والورش والمصانع والجامعات والنخب؟
حقا إنها انتخاباتٌ محلية، بلدية وليست انتخابات تشريعية. ولكن لمّا كانت الانتخابات المحلية على هذه الدرجة العالية من التسييس والحزبية، فإن ذلك يجعلها ذات بُعد سياسي لا يقل عن الانتخابات البرلمانية، بل إن مرشحي رئاسات البلديات أكثر قرباً واحتكاكاً بالجمهور من مرشحي البرلمان، بما يجعل منها انتخاباتٍ مجتمعيةً بالمعنى الدقيق للكلمة، فإذا استمر حزب العدالة منتشياً بالمركز الأول، مواظبا على الاحتفاظ به، وهذا من حقه، على ذلك ألا يقترن بالانفراد بالحكم مع حزب واحد فقط (الحركة القومية)، ما يجعله عرضةً لاستهلاك رصيده الاجتماعي والسياسي أكثر وأكثر مع كل انتخابات، بل ومع نشوب أية أزمة أو صعوبات داخلية، ومع إبقاء البلاد في حالة انشطار رأس وأفقي، أو حالة استقطاب قوية مع ما يحفّ بها من حالات احتقان وانسداد.
الانفراد المتعاقب مرة تلو الأخرى بالحكم لا يمكن أن يعتبر حالة ديمقراطية، وإن كان قد نشأ عن آلية ديمقراطية، إذ يحمل محاذير احتكار الصواب السياسي، واستمراء إقصاء الآخرين، واعتبار هذا الإقصاء تحصيل حاصل، ومن طبائع الأمور، بما يؤسّس للانحراف عن النهج الديمقراطي، وتبخيس الآخرين حقوقهم، فإذا اقترن ذلك بمظاهر تشدّد ضد وسائل الإعلام، والاحتفاظ بآلافٍ من المعتقلين والموقوفين بمحاكمة وبغير محاكمة، فإن ذلك يُنذر بارتداد إلى الوراء، إلى استبدادية مدنية بدلا من تلك العسكرية، والاحتكام إلى الجمهور المحازب، قبل الاحتكام إلى القانون.
في مرحلة ما قبل حزب العدالة والتنمية، كانت تتشكل حكومات ائتلافية من قوى اليمين، مضافا 
إليها مكون يساري. أخفقت تلك التجارب، بسبب سطوة المؤسسة العسكرية وتغلغل الفساد، من دون أن يعيب ذلك تجربة الائتلاف كمبدأ. بينما غابت، في عهد حزب العدالة وانكفاء العسكر، فكرة الحكومات الائتلافية. لم يغيّبها الواقع، بل الرؤية السياسية التي اتجهت إلى اختزال المجتمع كله بحزب واحد فائز في الانتخابات، وهو ما يجعل الأطراف المتضرّرة تتكتل أكثر فأكثر، وتزداد الشقة اتساعا بين الفاعلين السياسيين في تنافسٍ شبه صفري، بدلاً من التنافس القائم على أساس تعدّدي تعاقدي. مع ما لذلك من انعكاساتٍ على السياسة الخارجية، وعلى صورة البلد الكلية، وقد باتت تختلف عما كانت عليه في العقد الأول من القرن الجاري، حين كان قادة حزب العدالة يعملون على التجسير بين مجتمع مسلم وإرث دستوري علماني، وهوية تركية تتسع للمكون الكردي، وحين كان التوجه نحو الاتحاد الأوروبي والعالم العربي، وليس نحو روسيا وإيران.
من شأن خيار الحكومات الائتلافية تحقيق "مصالحة" ثانية داخل الحياة التركية، بعد "المصالحة" الأولى قبل 17 عاما بين الدولة العلمانية والمجتمع ذي الأغلبية المسلمة. مصالحة تتعدّى الجانب الأخلاقي إلى الجوانب الثقافية والسياسية والحقوقية والاجتماعية، وحتى الدستورية. إذ إن النظام الرئاسي لم يصبح بعد من "حقائق الحياة"، ليس لحداثة عهده، بل لأنه اقترن بتوجّه حزبٍ واحد (مع حليف له)، ولا بد من تفاهماتٍ دستورية واسعة داخل البرلمان وخارجه، يتم فيها الإصغاء لصوت المعارضة وللنخب، فالنظام الرئاسي قليل التداول في البلدان الديمقراطية المتقدّمة، كما تختلف مواصفاته، على قلة نماذجه في دول العالم المتقدم، بين بلد وآخر.
لقد حققت تركيا تقدما كبيرا في المجالات الصناعية والاقتصادية خلال الأعوام الـ17 الماضية، 
وقطعت مع عهد المؤسسة العسكرية وتحالف هذه المؤسسة مع طبقة رجال الأعمال والطامحين إلى النفوذ بطرق غير مشروعة، لكنها تشهد، منذ بضعة أعوام، احتقانا نجم عن محاولة الانقلاب صيف 2016، وما تلاها من إجراءات تضييقية واسعة. ونتيجة التراجع في الملف الكردي إلى ما كان عليه الحال في عهودٍ سابقة، كما شهدت بعض التراجع في مكانتها الإقليمية والدولية نتيجة أخطاء متبادلة بينها وبين الولايات المتحدة، ونتيجة إدارة الظهر للاتحاد الأوروبي وبروز تمحور مع روسيا وإيران (علماً أن الدولتين لا تعترفان بوزن خاص أو مكانة معتبرة لتركيا). ذلك كله بمناسبة انتخابات بلدية عكست تغيراتٍ مهمةٍ في خيارات الجمهور، وأطلقت رياحا سياسية تستحق استيعاب دروسها، لا معاندتها أو إنكار وجودها.
محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.