15 نوفمبر 2024
تركيا في عين العاصفة
تجد تركيا نفسها اليوم في عين عاصفةٍ عاتية في الإقليم، بقليل من الحلفاء، وكثير من الخصوم والأعداء، بل إن بعض "حلفائها" هم في الواقع عبء وقيد على حركتها ومقاربتها لمصالحها القومية، خصوصا في ما يتعلق بالملف الكردي.
صحيح أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، غير أنها لا تجد دعماً كبيراً من هذا الحلف، ولا حتى تطمينات كافية من طرفه في سياق تدهور علاقاتها مع روسيا، منذ أسقطت مقاتلتان حربيتان تركيتان مقاتلة روسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قالت أنقرة إنها اخترقت أجواءها. أيضا، لقيت كل مطالب تركيا بإنشاء منطقة آمنة شمال سورية، يحظر فيها الطيران، لاستيعاب اللاجئين السوريين، صدّاً من الولايات المتحدة، وهو ما أنتج فراغاً عبأته روسيا لاحقا، فارضة معادلة عسكرية جديدة على الأرض السورية، لصالح نظام بشار الأسد. وها هي تركيا، ومن ورائها أوروبا، تتهيأ اليوم لمواجهة تدفق بشري سوري هائل جديد، محتمل، عبر حدودها هرباً من الغارات الجوية الروسية الوحشية، ومن جرائم النظام والمليشيات المتعاونة معه على الأرض.
ولا يقف الخذلان الأميركي "الحليف" التركي عند ذلك الحد، بل لم تتردد الولايات المتحدة في المسِّ بالعصب الأكثر حساسية لدى الأتراك، وذلك عبر دعمها قوات "الحزب الديمقراطي الكردي" في سورية، والذي ترى تركيا أنه الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي يخوض صراعا دمويا معها منذ عقود. وكانت ثالثة الأثافي لدى الأتراك، أن تجتمع الولايات المتحدة مع روسيا ونظام الأسد في دعم القوات التابعة للحزب الديمقراطي الكردي، وها هي تلك القوات تحقق انتصارات عسكرية في شمال سورية، وتحديداً في ريف حلب، على حساب المعارضة السورية، التي هي في الأصل حليف أميركي كذلك، وهو ما يهدّد بإنشاء كيان كردي على الحدود الجنوبية التركية. ومرة أخرى، تجد إدانات تركيا وتحذيراتها صدوداً، بل وامتعاضاً أميركيا، خصوصاً مع إعلان تركيا أنها لن تسمح لأكراد سورية بالسيطرة على بلدة أعزاز في ريف حلب، وقصفها تلك القوات على مشارف البلدة، وهو الأمر الذي قابلته الولايات المتحدة بمطالب لتركيا بإيقاف القصف، مترافقة مع دعواتٍ خجولةٍ للقوات الكردية بعدم التوسع أكثر في الشمال السوري. كل ما يعني الأميركيين، اليوم، هو محاربة تنظيم داعش، وحسب هذه المقاربة، فإن الأكراد السوريين هم حلفاء في ذلك، حتى وإن كانوا حلفاء كذلك للروس ونظام الأسد، ويشكلون تهديداً "للحليف" التركي.
معضلات تركيا مع "الحلفاء"، وفشل مساعيها إلى اليوم بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي،
تترافق مع أزمات إقليمية أخرى. فعلاقاتها مع كثير من دول الجوار إما متوترة أو متدهورة. فالعلاقات مع نظام الأسد، "صديق" الأمس، وصلت إلى مرحلة اللاعودة. على مدى سنوات خمس، بنت تركيا حساباتها في سورية على انهيار نظام الأسد، بعد أن فشلت محاولاتها الأولية، مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، في إعادة تأهيله، غير أن التدخل الإيراني والروسي لمصلحته ساعداه على البقاء إلى اليوم. أيضا، فإن العلاقات مع اليونان لا زالت متوترة، وكذلك مع أرمينيا، وينطبق الأمر نفسه على العلاقة مع إسرائيل التي تحاول محاصرة تركيا في البحر الأبيض المتوسط بالتعاون مع المحورين اليوناني والمصري. ولا تشذ العلاقات التركية-الإيرانية عن سياق التوترات الإقليمية لتركيا اليوم، تحديداً بسبب الصراع في سورية، وينطبق الأمر نفسه على كثير من العلاقات التركية-العربية، كما مع مصر والعراق والإمارات العربية المتحدة.. إلخ. بمعنى آخر، فإن "سياسة تصفير المشاكل" مع دول الجوار التي أطلقها قبل سنوات رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، عندما كان وزيراً للخارجية، انتهت إلى تَصْنيعٍ للخصوم والأعداء في الإقليم.
ولكن معضلات تركيا لا تقف عند ذلك الحد. فتركيا التي قبلت بالدخول في التحالف الغربي ضد تنظيم داعش، تجد نفسها اليوم في دائرة استهدافه، وهو مسؤول عن عدد من التفجيرات فيها، بشكل أضر بالسياحة وفرص الاستثمار فيها. وعلى الرغم من الثمن الكبير الذي دفعته تركيا للدخول في الحرب على التنظيم، إلا أنها لا زالت تجد نفسها متهمة من دول غربية كثيرة، كما من روسيا ونظام الأسد، بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية للسيطرة على حدودها مع سورية، وهو ما يمكّن التنظيم من تهريب المقاتلين والسلاح والنفط، كما يقولون. أبعد من ذلك، فإن دخول تركيا في الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد "داعش" في سورية، لم يشفع لها لدى إدارة الرئيس، باراك أوباما، في مراعاة حساسياتها نحو الملفين، الكردي والسوري. وها هي تركيا اليوم تدفع ثمنا اقتصاديا باهظا جرّاء توتر العلاقة مع روسيا، من دون أن يكون هناك دعم أميركي-أوروبي معتبر، يمكن الركون إليه. يترافق كل ما سبق مع احتقان سياسي داخلي. فعلى الرغم من فوز حزب العدالة والتنمية الحاكم بأغلبية برلمانية مريحة في انتخابات الإعادة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، مكّنته من تشكيل حكومة منفرداً، من دون الاضطرار إلى الدخول في تحالفات برلمانية، غير أنه لا يزال غير قادر على إجراء تعديل دستوري، من دون تحالفات، يجعل من تركيا نظاماً رئاسياً، كما يطمح الرئيس، رجب طيب أردوغان.
باختصار، تدفع تركيا ثمناً لتوليفة غريبة من الأسباب. فهي، من ناحية، تدفع ثمناً للهوية الفكرية الإسلامية "الخلفية" لبعض زعمائها الحاكمين اليوم. ومن ناحية أخرى، فإنها تدفع ثمناً جرّاء تبنيها جملة من المواقف المتوافقة مع ضمير الأمة العربية والإسلامية، كما في سورية وفلسطين ومصر وميانمار. ومن ناحية ثالثة، فإنها تدفع ثمناً لحقيقة أنها دولة "مسلمة"، حتى وإن كانت "علمانية"، وهذا هو السبب الأساسي لتعثر ملف عضويتها أوروبيا. أما أهم مسببات أزماتها اليوم، فهو ذاتي. فتركيا تجد نفسها في الوضع نفسه الذي تجد فيه المملكة العربية السعودية نفسها، حيث أن رهنهما، عقوداً، سقف استقلالية قراراتهما الأمنية والدفاعية والاستراتيجية للعلاقة مع الولايات المتحدة، شَكَّلَ قيداً عليهما، عندما افترقت الحسابات، كما في سورية واليمن، أم حتى في العلاقة مع إيران، ولربما هذا هو دافع التقارب بين البلدين، في الآونة الأخيرة. ولكن، بخطوات بطيئة وغير كافية، كما في الحديث المتردد عن تدخل بري في سورية لمحاربة "داعش"، وتعزيز المعارضة المتقهقرة أمام نظام الأسد اليوم، بفضل الدعم الروسي. فعلى الرغم من الحديث المضطرد عن تحالف تركي-سعودي في سورية أكثر فعالية، غير أن الطرفين يدركان أنه من دون غطاء أميركي ضد السيطرة الجوية الروسية في سورية، فإن فرص تدخلهما ونطاقه سيكون محدودا. تأخرت تركيا، واستتباعاً، السعودية، كثيراً في سورية، ولذلك هما في عين العاصفة اليوم، لكن تركيا في وضع أكثر حراجة في هذه المرحلة، على الأقل آنيّاً.
صحيح أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، غير أنها لا تجد دعماً كبيراً من هذا الحلف، ولا حتى تطمينات كافية من طرفه في سياق تدهور علاقاتها مع روسيا، منذ أسقطت مقاتلتان حربيتان تركيتان مقاتلة روسية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قالت أنقرة إنها اخترقت أجواءها. أيضا، لقيت كل مطالب تركيا بإنشاء منطقة آمنة شمال سورية، يحظر فيها الطيران، لاستيعاب اللاجئين السوريين، صدّاً من الولايات المتحدة، وهو ما أنتج فراغاً عبأته روسيا لاحقا، فارضة معادلة عسكرية جديدة على الأرض السورية، لصالح نظام بشار الأسد. وها هي تركيا، ومن ورائها أوروبا، تتهيأ اليوم لمواجهة تدفق بشري سوري هائل جديد، محتمل، عبر حدودها هرباً من الغارات الجوية الروسية الوحشية، ومن جرائم النظام والمليشيات المتعاونة معه على الأرض.
ولا يقف الخذلان الأميركي "الحليف" التركي عند ذلك الحد، بل لم تتردد الولايات المتحدة في المسِّ بالعصب الأكثر حساسية لدى الأتراك، وذلك عبر دعمها قوات "الحزب الديمقراطي الكردي" في سورية، والذي ترى تركيا أنه الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، الذي يخوض صراعا دمويا معها منذ عقود. وكانت ثالثة الأثافي لدى الأتراك، أن تجتمع الولايات المتحدة مع روسيا ونظام الأسد في دعم القوات التابعة للحزب الديمقراطي الكردي، وها هي تلك القوات تحقق انتصارات عسكرية في شمال سورية، وتحديداً في ريف حلب، على حساب المعارضة السورية، التي هي في الأصل حليف أميركي كذلك، وهو ما يهدّد بإنشاء كيان كردي على الحدود الجنوبية التركية. ومرة أخرى، تجد إدانات تركيا وتحذيراتها صدوداً، بل وامتعاضاً أميركيا، خصوصاً مع إعلان تركيا أنها لن تسمح لأكراد سورية بالسيطرة على بلدة أعزاز في ريف حلب، وقصفها تلك القوات على مشارف البلدة، وهو الأمر الذي قابلته الولايات المتحدة بمطالب لتركيا بإيقاف القصف، مترافقة مع دعواتٍ خجولةٍ للقوات الكردية بعدم التوسع أكثر في الشمال السوري. كل ما يعني الأميركيين، اليوم، هو محاربة تنظيم داعش، وحسب هذه المقاربة، فإن الأكراد السوريين هم حلفاء في ذلك، حتى وإن كانوا حلفاء كذلك للروس ونظام الأسد، ويشكلون تهديداً "للحليف" التركي.
معضلات تركيا مع "الحلفاء"، وفشل مساعيها إلى اليوم بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي،
ولكن معضلات تركيا لا تقف عند ذلك الحد. فتركيا التي قبلت بالدخول في التحالف الغربي ضد تنظيم داعش، تجد نفسها اليوم في دائرة استهدافه، وهو مسؤول عن عدد من التفجيرات فيها، بشكل أضر بالسياحة وفرص الاستثمار فيها. وعلى الرغم من الثمن الكبير الذي دفعته تركيا للدخول في الحرب على التنظيم، إلا أنها لا زالت تجد نفسها متهمة من دول غربية كثيرة، كما من روسيا ونظام الأسد، بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية للسيطرة على حدودها مع سورية، وهو ما يمكّن التنظيم من تهريب المقاتلين والسلاح والنفط، كما يقولون. أبعد من ذلك، فإن دخول تركيا في الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد "داعش" في سورية، لم يشفع لها لدى إدارة الرئيس، باراك أوباما، في مراعاة حساسياتها نحو الملفين، الكردي والسوري. وها هي تركيا اليوم تدفع ثمنا اقتصاديا باهظا جرّاء توتر العلاقة مع روسيا، من دون أن يكون هناك دعم أميركي-أوروبي معتبر، يمكن الركون إليه. يترافق كل ما سبق مع احتقان سياسي داخلي. فعلى الرغم من فوز حزب العدالة والتنمية الحاكم بأغلبية برلمانية مريحة في انتخابات الإعادة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، مكّنته من تشكيل حكومة منفرداً، من دون الاضطرار إلى الدخول في تحالفات برلمانية، غير أنه لا يزال غير قادر على إجراء تعديل دستوري، من دون تحالفات، يجعل من تركيا نظاماً رئاسياً، كما يطمح الرئيس، رجب طيب أردوغان.
باختصار، تدفع تركيا ثمناً لتوليفة غريبة من الأسباب. فهي، من ناحية، تدفع ثمناً للهوية الفكرية الإسلامية "الخلفية" لبعض زعمائها الحاكمين اليوم. ومن ناحية أخرى، فإنها تدفع ثمناً جرّاء تبنيها جملة من المواقف المتوافقة مع ضمير الأمة العربية والإسلامية، كما في سورية وفلسطين ومصر وميانمار. ومن ناحية ثالثة، فإنها تدفع ثمناً لحقيقة أنها دولة "مسلمة"، حتى وإن كانت "علمانية"، وهذا هو السبب الأساسي لتعثر ملف عضويتها أوروبيا. أما أهم مسببات أزماتها اليوم، فهو ذاتي. فتركيا تجد نفسها في الوضع نفسه الذي تجد فيه المملكة العربية السعودية نفسها، حيث أن رهنهما، عقوداً، سقف استقلالية قراراتهما الأمنية والدفاعية والاستراتيجية للعلاقة مع الولايات المتحدة، شَكَّلَ قيداً عليهما، عندما افترقت الحسابات، كما في سورية واليمن، أم حتى في العلاقة مع إيران، ولربما هذا هو دافع التقارب بين البلدين، في الآونة الأخيرة. ولكن، بخطوات بطيئة وغير كافية، كما في الحديث المتردد عن تدخل بري في سورية لمحاربة "داعش"، وتعزيز المعارضة المتقهقرة أمام نظام الأسد اليوم، بفضل الدعم الروسي. فعلى الرغم من الحديث المضطرد عن تحالف تركي-سعودي في سورية أكثر فعالية، غير أن الطرفين يدركان أنه من دون غطاء أميركي ضد السيطرة الجوية الروسية في سورية، فإن فرص تدخلهما ونطاقه سيكون محدودا. تأخرت تركيا، واستتباعاً، السعودية، كثيراً في سورية، ولذلك هما في عين العاصفة اليوم، لكن تركيا في وضع أكثر حراجة في هذه المرحلة، على الأقل آنيّاً.