19 أكتوبر 2019
ترامب والتفكيك الممنهج للمنظومة الدولية
ينفذ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المتقلب المزاج، وعوده الانتخابية شيئاً فشيئاً، منتهجاً سياسةً تفكيكيةً لمنظومة دولية بأكملها. وبسياسته هذه، يضع كثيرين من حلفاء الولايات المتحدة في مأزق سياسي، خصوصاً أن ترامب، بمنطقه المانوي وخلفيته الدينية والإنجيلية السياسية، لا يفقه شيئاً في منطق شعرة معاوية، فهو يضع العلاقة الإستراتيجية العابرة للأطلسي على المحك. إذ تمر هذه العلاقة بظروف عسيرة أصعب من التي عرفتها في عهد بوش الابن، لا سيما خلال عهدته الأولى.
بدأت سياسة ترامب التفكيكية بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق المناخ الدولي، ما أثار حفيظة الحلفاء الأوروبيين ومخاوفهم، كون أميركا ثاني ملوث في العالم بعد الصين. والمشكلة ليست سياسية، بل أيديولوجية أيضاً، فلا ترامب ولا معاونوه ولا مساندوه يؤمنون بالاحتباس الحراري. ومن ثم، لا يمكنهم البقاء في اتفاق دولي يقوم على مسلمةٍ يرفضونها تماماً، بل ولا يقبلونها حتى مجرد فرضية. إنه شرخ ما بعده شرخ بين ضفتي الأطلسي. ستكون له انعكاساته الوخيمة على المعمورة بأكملها، نظراً لحساسية المسألة المناخية، إذ من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، تدارك الأمور البيئية بعد فوات الأوان.
الاتفاق الدولي الآخر الذي طاولته السياسة التفكيكية الأميركية هو بشأن النووي الإيراني، فقد
وعد ترامب بالانسحاب منه وفعل، ما أثار حفيظة الأطراف الدولية، سيما الأوروبية المنخرطة في هذا الاتفاق، والتي ما زالت تدافع عنه سبيلاً للحيلولة دون امتلاك إيران السلاح النووي. ويعود انسحاب أميركا من الاتفاق إلى التقاء وتفاعل عاملين أساسيين: معاداة الإدارة الأميركية الحالية إيران لأسباب تاريخية ودينية، وتناغم مواقف هذه الإدارة مع الحكومة الإسرائيلية، إلى درجة أن سياسة أميركا الشرق أوسطية في عهد ترامب أصبحت كأنها ملحقة للسياسة الإسرائيلية.
التفكيك الآخر للمنظومة الدولية، والمرتبط أيضاً بالثاني، طاول بعض القواعد المؤسسة للقانون الدولي منذ عقود، والذي تمثل في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، في ظرفٍ إقليميٍّ في غاية من عدم الاستقرار، فعلى الرغم من أن رؤساء أميركيين تحدثوا عن نقلها، لكن لا أحد منهم أقدم على هذا القرار الذي لم يتردّد فيه ترامب. هكذا يواصل الرئيس الأميركي تفكيك بعض أسس المنظومة الدولية. والمشكلة أن هذا السلوك صادر عن القوة الأولى في العالم التي من المفترض أن تعمل على حماية هذه المنظومة التي ساهمت في بنائها. ويأتي نقل السفارة الأميركية إلى القدس في سياقٍ عربيٍّ متغير، يتسم بتراجع القضية الفلسطينية في سلم الأولويات العربية، حتى على مستوى الخطاب. بل ويبدو أن بعض حلفاء ترامب من العرب يكادون يرحبون بهذا القرار، كرهاً في حركة حماس، وليس بالضرورة حباً في إسرائيل وفي ترامب، فالذين يعتبرون أنفسهم مدينين لترامب لسحب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني وقعوا في فخٍّ مع نقله السفارة الأميركية إلى القدس، خصوصاً أن السياق أفسد الحسابات: قتل الجيش الإسرائيلي مئات المدنيين على حدود غزة وضع هؤلاء في موقف حرج، فهؤلاء يوظفون الدين في تعاملهم مع إيران، ووجدوا أنفسهم في مأزقٍ بسبب تعامل ترامب مع القدس من منظور ديني. لينكشف أمر الجميع: ممارسة السياسة بالدين وباسم الدين، خدمة لمآرب دنيوية مدنسة، لا علاقة لها بالمقدس.
ويتمثل الشق الاقتصادي لهذه السياسة التفكيكية الأميركية في الحمائية الاقتصادية. من المثير للانتباه أن تصبح الدولة الأكثر ليبرالية في العالم، ولعبت دوراً ريادياً في بناء المنظومة
الاقتصادية والدولية الحالية، هي الأكثر حمائية، فترامب قرّر فرض رسوم مرتفعة على بعض المواد المستورة من الصين وروسيا، وحتى أوروبا بدعوى حماية المنتوج الأميركي. وينم هذا السلوك عن رؤيةٍ ضيقةٍ، بل عن تجاهل أدنى قواعد الاقتصاد. ففي سياق دولي، يتسم بعولمة المبادلات، وببقاء الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم، فإن لكل الأطراف المنخرطة في شبكة المبادلات الدولية قدرة على اتخاذ إجراءات مماثلة، علماً أن الاقتصاديات الأقوى هي دائماً الأكثر استفادةً من تحرير التجارة الدولية. ومن هنا، يأتي الخلل في التوجه والسلوك الأميركيين. إذ لا يمكن ان تكون الحمائية الاقتصادية وسيلةً لحل معضلة الخلل في الميزان التجاري الأميركي لصالح الصين، فضلاً عن تضرّر الشركات الأميركية من هذه الحمائية، لأنها تعرّضها للمعاملة بالمثل من الدول الأخرى. ومن ثم يمكن القول إن الرؤية الاقتصادية لإدارة ترامب ستقوّض نمو الاقتصاد العالمي، وبالتالي الأميركي، فالأخير قد يستفيد في البداية من الحمائية، لكنها سرعان ما تتحول نقمة عليه.
الملاحظ أن الشرق الأوسط يبقى بؤرة توتر بالنسبة للنظام الدولي، فهذه السياسة التفكيكية الأميركية طاولت الشرق الأوسط أكثر من غيره من مناطق العالم. إلى حد الآن، كرّس ترامب نصف عمله التفكيكي للشرق الأوسط، ما يوحي أن هذه المنطقة مرشحةٌ لأن تكون مسرحاً لتوتراتٍ قادمةٍ، وربما حروبٍ بتواطؤ دول محلية، تضحي بمصالح بعيدة الأمد من أجل مصالح ظرفية.
بدأت سياسة ترامب التفكيكية بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق المناخ الدولي، ما أثار حفيظة الحلفاء الأوروبيين ومخاوفهم، كون أميركا ثاني ملوث في العالم بعد الصين. والمشكلة ليست سياسية، بل أيديولوجية أيضاً، فلا ترامب ولا معاونوه ولا مساندوه يؤمنون بالاحتباس الحراري. ومن ثم، لا يمكنهم البقاء في اتفاق دولي يقوم على مسلمةٍ يرفضونها تماماً، بل ولا يقبلونها حتى مجرد فرضية. إنه شرخ ما بعده شرخ بين ضفتي الأطلسي. ستكون له انعكاساته الوخيمة على المعمورة بأكملها، نظراً لحساسية المسألة المناخية، إذ من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، تدارك الأمور البيئية بعد فوات الأوان.
الاتفاق الدولي الآخر الذي طاولته السياسة التفكيكية الأميركية هو بشأن النووي الإيراني، فقد
التفكيك الآخر للمنظومة الدولية، والمرتبط أيضاً بالثاني، طاول بعض القواعد المؤسسة للقانون الدولي منذ عقود، والذي تمثل في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس المحتلة، في ظرفٍ إقليميٍّ في غاية من عدم الاستقرار، فعلى الرغم من أن رؤساء أميركيين تحدثوا عن نقلها، لكن لا أحد منهم أقدم على هذا القرار الذي لم يتردّد فيه ترامب. هكذا يواصل الرئيس الأميركي تفكيك بعض أسس المنظومة الدولية. والمشكلة أن هذا السلوك صادر عن القوة الأولى في العالم التي من المفترض أن تعمل على حماية هذه المنظومة التي ساهمت في بنائها. ويأتي نقل السفارة الأميركية إلى القدس في سياقٍ عربيٍّ متغير، يتسم بتراجع القضية الفلسطينية في سلم الأولويات العربية، حتى على مستوى الخطاب. بل ويبدو أن بعض حلفاء ترامب من العرب يكادون يرحبون بهذا القرار، كرهاً في حركة حماس، وليس بالضرورة حباً في إسرائيل وفي ترامب، فالذين يعتبرون أنفسهم مدينين لترامب لسحب بلاده من الاتفاق النووي الإيراني وقعوا في فخٍّ مع نقله السفارة الأميركية إلى القدس، خصوصاً أن السياق أفسد الحسابات: قتل الجيش الإسرائيلي مئات المدنيين على حدود غزة وضع هؤلاء في موقف حرج، فهؤلاء يوظفون الدين في تعاملهم مع إيران، ووجدوا أنفسهم في مأزقٍ بسبب تعامل ترامب مع القدس من منظور ديني. لينكشف أمر الجميع: ممارسة السياسة بالدين وباسم الدين، خدمة لمآرب دنيوية مدنسة، لا علاقة لها بالمقدس.
ويتمثل الشق الاقتصادي لهذه السياسة التفكيكية الأميركية في الحمائية الاقتصادية. من المثير للانتباه أن تصبح الدولة الأكثر ليبرالية في العالم، ولعبت دوراً ريادياً في بناء المنظومة
الملاحظ أن الشرق الأوسط يبقى بؤرة توتر بالنسبة للنظام الدولي، فهذه السياسة التفكيكية الأميركية طاولت الشرق الأوسط أكثر من غيره من مناطق العالم. إلى حد الآن، كرّس ترامب نصف عمله التفكيكي للشرق الأوسط، ما يوحي أن هذه المنطقة مرشحةٌ لأن تكون مسرحاً لتوتراتٍ قادمةٍ، وربما حروبٍ بتواطؤ دول محلية، تضحي بمصالح بعيدة الأمد من أجل مصالح ظرفية.