19 أكتوبر 2019
ترامب وأوروبا.. فرصة للانعتاق الاستراتيجي؟
هناك إجماع أوروبي (باستثناء الأوساط اليمينية المتطرّفة) أن الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، يضع العلاقة العابرة للأطلسي على المحك، ويهاجم البناء الأوروبي. إذ أثارت تصريحاته، بشأن "أميركا أولاً" والحمائية الاقتصادية والتنكّر لالتزامات سلفه فيما يتعلق بحماية البيئة، وعلاقته الوطيدة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ردود فعل ومخاوف في أوروبا.
يمكن تصنيف هذه المخاوف في أربع فئات. تخص الأولى البناء الأوروبي، ذلك أن ترامب يشيد بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولا يعير أهمية لمصير الأخير، بل يبدو أنه يتمنى انهياره، فضلاً عن مساهمة انتخابه في مدٍّ جديدٍ للتيارات اليمينية المتطرّفة في أوروبا. تخص الثانية مآل العلاقة العابرة للأطلسي والمنظومة القيمية المشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا. وتشمل الثالثة الاعتبارات الاستراتيجية، لاسيما مصير الحلف الأطلسي، ومشاركة أميركا في الأمن الأوروبي، وتقارب إدارة ترامب، وربما تناغم سياساتها، مع روسيا بوتين على حساب الاتحاد الأوروبي، لاسيما دوله الشرقية الأكثر حساسيةً لأي سلوك روسي، نظراً لإرث العهد الشيوعي. أما الفئة الرابعة فتخص المسائل الاقتصادية، وتحديداً تبعات حمائية ترامب على المبادلات التجارية الأوروبية - الأميركية خصوصاً، وعلى التجارة الدولية (استهدافه صراحة الصين) عموماً.
ويؤكد ترامب في حوار أدلى به ليوميتين أوروبيتين (تايمز البريطانية وبيلت الألمانية) على التوجه الذي عبر عنه في أثناء الحملة الانتخابية. وأثار الحوار، نظراً لمضامينه "المعادية" ردود فعل كثيرة في أوروبا. وقد خصصت يومية لوموند الفرنسية عمود عددها، يوم 17
يناير/ كانون الثاني الجاري، إلى هذا الحوار ومواقف ترامب، معبرةً عن الشواغل والهموم والآمال الأوروبية مع تسلمه مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، فهي ترى أن أميركا ترامب تريد الانغلاق على نفسها والحمائية والاستغناء عن حلفائها. وكتبت إن ترامب لا يحب الاتحاد الأوروبي، ويراهن على تفككه الآتي، إذ أنها "للمرة الأولى منذ الخمسينيات، يعلن رئيس أميركي عدم اكتراثه، بل حتى عداءه، بمشروع التكامل الأوروبي". ما تعتبره الصحيفة الفرنسية تحولاً تاريخياً في السياسة الأميريكة، ذلك أن الولايات المتحدة ساهمت في توحيد أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية، ودعمتها دائماً منذ ذلك الحين. إنه عهد ولَّى، فترامب يحتقر ما أنجزه الأوروبيون في مسار الوحدة والتعاون البيني. وهذا ما قاله صراحة في حواره هذا، كما لا تهمه وحدة الأوروبيين من عدمها، وإن يبدو أنه يفضل انقسامهم على وحدتهم، فهو يرحب بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي يعتقد أنه سيكون شيئاً عظيماً، ويرى أن دولاً أعضاء أخرى ستسير على خطى بريطانيا لتغادر الاتحاد الذي هو في خدمة القوة الألمانية على حد قوله (مهاجماً الأخيرة في الحوار نفسه)، أما الحلف الأطلسي، فقد تجاوزه الزمن، في رأيه.
تكتب "لوموند" إن أمام أوروبا خيارين. أن تتباكى لهذا التحول في الموقف الأميركي وتراهن على الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، علها تنجح في تحييد سياسة ترامب، وأن تسعى لطمأنة نفسها بالتذكير بعدم الانسجام في مواقف ترامب، لكنها ستخسر، في النهاية، لأن الأخير سيحقق على الأقل جزءاً من برنامجه. أو أن تغتنم أوروبا "الفرصة" التي يمنحها لها ترامب؛ فرصة الوصول، أخيراً، إلى مرحلة النضج، بمعنى ألاَّ تكون فقط نجاحاً تجارياً ونقدياً، بل أن تجد طريق النمو مجدّداً، وأن تكون لها استقلالية عسكرية أكبر، وإمكانات أكبر في البحث والتطوير لمواجهة التحديات، لاسيما الهجرة. هكذا عبرت "لوموند" عن هواجس أوروبا وآمالها.
لكن، ما هو الاتجاه السائد في أوروبا عموماً ودوافعه ومآلاته؟ يلاحظ من النقاشات السياسية والإعلامية في بعض دول الاتحاد الأوروبي، لاسيما فرنسا، أن انتخاب ترامب "المعادي" لأوروبا وللحلف الأطلسي الذي هو قوام الرابطة القيمية العابر للأطلسي، يمثل فرصةً تاريخيةً لما يمكن أن نسميه الانعتاق الاستراتيجي لأوروبا، للتخلص من "الوصاية" الأميركية، خصوصاً أن الطرف الأميركي هو من يـفسخ العقد القيمي والتحالف الاستراتيجي بين الطرفين. بل يلاحظ أن بعض تصريحات الساسة الفرنسيين أخذت نبرة ديغولية (عمل ديغول على ضمان الاستقلالية الاستراتيجية لفرنسا، بتزويدها بالسلاح النووي وسحبها من القيادة الموحدة لحلف شمال الأطلسي التي عادت إليها في عهد ساركوزي). لكن فرنسا تعيش حالياً حملة تمهيدية استعداداً للحملة الرسمية للانتخابات الرئاسية في أبريل/ نيسان 2017، ما قد يجعل بعض التصريحات من قبيل المزايدات السياسية لتمويه الرأي العام. بيد أنه، على الرغم من ذلك، هناك شبه إجماع على ضرورة اقتناص هذه اللحظة "التاريخية لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا، وجعلها قوة عسكرية لا اقتصادية فقط".
صحيح أن فرنسا تتزعم هذا الاتجاه. لكن، يبدو أن دولاً أوروبية أخرى، مثل ألمانيا وبلدان
أوروبا الشرقية، تشارطها التصور عموماً، خصوصاً أن عقبات أساسية حالت دون تزويد الاتحاد الأوروبي بقوةٍ عسكريةٍ حقيقيةٍ زالت أو هي قيد الزوال. أولها المعارضة البريطانية (البنيوية) لأي توجه عسكري استقلالي للاتحاد، نظراً لتحالفها التقليدي مع أميركا عملت بريطانيا على إجهاض أي مسعىً في هذا المجال. ومع خروجها من الاتحاد الأوروبي، تفقد قدرتها الإجهاضية من الداخل لأي مشروع عسكري أوروبي، كما لا يمكنها التعذّر بالحلف الأطلسي. ثانيها، التوجه الأطلسي لدول أوروبية، مثل إيطاليا، والبرتغال وإسبانيا، وخصوصاً دول أوروبا الشرقية الحديثة العضوية في الاتحاد الأوروبي، كان دائماً عائقاً أمام أي مشروع عسكري أوروبي جدي، فالهاجس الروسي جعل هذه الدول تفضل المظلتين، الأميركية والأطلسية (الناتو)، وتعرقل البناء العسكري الأوروبي. لكن، مع تقارب/ توافق ترامب مع بوتين، وموقفه السلبي من الحلف الأطلسي، لم يعد أمام هذه الدول الشرقية إلاَّ البديل الأوروبي.
إنْ تمكن الأوروبيون من التوصل إلى استراتيجية جماعية للتعامل مع ترامب، فإن الأخير يكون قد قدم خدمة استراتيجية فريدة للاتحاد الأوروبي الذي يجب أن يعوّل، من اليوم، على نفسه. يقوّي مثل هذا التطور الجناح الاستقلالي داخل الاتحاد، والذي كانت فرنسا ومازالت أهم أقطابه. ومن ثم يمكن القول إن دول الاتحاد لا تتضرّر بالضرورة بالقدر نفسه من توجهات ترامب السلبية، إن لم نقل المعادية حيال الاتحاد الأوروبي، ما يشير إلى تغييرٍ في موازين القوى داخل الاتحاد، بل قد تساهم سياسة ترامب في مساعدة الاتحاد الأوروبي على تجاوز محنة الانسحاب البريطاني، والاتفاق على مشروع استراتيجي، يجدّد الثقة في البناء الأوروبي، ويعطيه نفساً جديداً هو في أمسّ الحاجة إليه.
يمكن تصنيف هذه المخاوف في أربع فئات. تخص الأولى البناء الأوروبي، ذلك أن ترامب يشيد بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولا يعير أهمية لمصير الأخير، بل يبدو أنه يتمنى انهياره، فضلاً عن مساهمة انتخابه في مدٍّ جديدٍ للتيارات اليمينية المتطرّفة في أوروبا. تخص الثانية مآل العلاقة العابرة للأطلسي والمنظومة القيمية المشتركة بين الولايات المتحدة وأوروبا. وتشمل الثالثة الاعتبارات الاستراتيجية، لاسيما مصير الحلف الأطلسي، ومشاركة أميركا في الأمن الأوروبي، وتقارب إدارة ترامب، وربما تناغم سياساتها، مع روسيا بوتين على حساب الاتحاد الأوروبي، لاسيما دوله الشرقية الأكثر حساسيةً لأي سلوك روسي، نظراً لإرث العهد الشيوعي. أما الفئة الرابعة فتخص المسائل الاقتصادية، وتحديداً تبعات حمائية ترامب على المبادلات التجارية الأوروبية - الأميركية خصوصاً، وعلى التجارة الدولية (استهدافه صراحة الصين) عموماً.
ويؤكد ترامب في حوار أدلى به ليوميتين أوروبيتين (تايمز البريطانية وبيلت الألمانية) على التوجه الذي عبر عنه في أثناء الحملة الانتخابية. وأثار الحوار، نظراً لمضامينه "المعادية" ردود فعل كثيرة في أوروبا. وقد خصصت يومية لوموند الفرنسية عمود عددها، يوم 17
تكتب "لوموند" إن أمام أوروبا خيارين. أن تتباكى لهذا التحول في الموقف الأميركي وتراهن على الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، علها تنجح في تحييد سياسة ترامب، وأن تسعى لطمأنة نفسها بالتذكير بعدم الانسجام في مواقف ترامب، لكنها ستخسر، في النهاية، لأن الأخير سيحقق على الأقل جزءاً من برنامجه. أو أن تغتنم أوروبا "الفرصة" التي يمنحها لها ترامب؛ فرصة الوصول، أخيراً، إلى مرحلة النضج، بمعنى ألاَّ تكون فقط نجاحاً تجارياً ونقدياً، بل أن تجد طريق النمو مجدّداً، وأن تكون لها استقلالية عسكرية أكبر، وإمكانات أكبر في البحث والتطوير لمواجهة التحديات، لاسيما الهجرة. هكذا عبرت "لوموند" عن هواجس أوروبا وآمالها.
لكن، ما هو الاتجاه السائد في أوروبا عموماً ودوافعه ومآلاته؟ يلاحظ من النقاشات السياسية والإعلامية في بعض دول الاتحاد الأوروبي، لاسيما فرنسا، أن انتخاب ترامب "المعادي" لأوروبا وللحلف الأطلسي الذي هو قوام الرابطة القيمية العابر للأطلسي، يمثل فرصةً تاريخيةً لما يمكن أن نسميه الانعتاق الاستراتيجي لأوروبا، للتخلص من "الوصاية" الأميركية، خصوصاً أن الطرف الأميركي هو من يـفسخ العقد القيمي والتحالف الاستراتيجي بين الطرفين. بل يلاحظ أن بعض تصريحات الساسة الفرنسيين أخذت نبرة ديغولية (عمل ديغول على ضمان الاستقلالية الاستراتيجية لفرنسا، بتزويدها بالسلاح النووي وسحبها من القيادة الموحدة لحلف شمال الأطلسي التي عادت إليها في عهد ساركوزي). لكن فرنسا تعيش حالياً حملة تمهيدية استعداداً للحملة الرسمية للانتخابات الرئاسية في أبريل/ نيسان 2017، ما قد يجعل بعض التصريحات من قبيل المزايدات السياسية لتمويه الرأي العام. بيد أنه، على الرغم من ذلك، هناك شبه إجماع على ضرورة اقتناص هذه اللحظة "التاريخية لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا، وجعلها قوة عسكرية لا اقتصادية فقط".
صحيح أن فرنسا تتزعم هذا الاتجاه. لكن، يبدو أن دولاً أوروبية أخرى، مثل ألمانيا وبلدان
إنْ تمكن الأوروبيون من التوصل إلى استراتيجية جماعية للتعامل مع ترامب، فإن الأخير يكون قد قدم خدمة استراتيجية فريدة للاتحاد الأوروبي الذي يجب أن يعوّل، من اليوم، على نفسه. يقوّي مثل هذا التطور الجناح الاستقلالي داخل الاتحاد، والذي كانت فرنسا ومازالت أهم أقطابه. ومن ثم يمكن القول إن دول الاتحاد لا تتضرّر بالضرورة بالقدر نفسه من توجهات ترامب السلبية، إن لم نقل المعادية حيال الاتحاد الأوروبي، ما يشير إلى تغييرٍ في موازين القوى داخل الاتحاد، بل قد تساهم سياسة ترامب في مساعدة الاتحاد الأوروبي على تجاوز محنة الانسحاب البريطاني، والاتفاق على مشروع استراتيجي، يجدّد الثقة في البناء الأوروبي، ويعطيه نفساً جديداً هو في أمسّ الحاجة إليه.