تدمير غابات إدلب...قصف النظام والاحتطاب الجائر يتلفان رئة سورية

04 نوفمبر 2018
تدمير أكبر محمية طبيعية للغابات في إدلب (Getty)
+ الخط -
فصل الثلاثيني السوري أحمد الفارس من وظيفته في معمل الزجاج الحكومي بحلب في عام 2014 بعد تغيبه عن الدوام ليتجنب سوقه إلى خدمة الاحتياط ضمن قوات بشار الأسد، غير أنه لم يجد خلال العامين الماضيين مصدرا لتأمين قوت أطفاله الأربعة، سوى العمل في التحطيب بعدما أكلت سنوات الحرب مدخراته، إذ يعيش الفارس في مخيم الحرية قرب قرية حمامات الشيخ عيسى في منطقة جسر الشغور التي توجد بها أكبر محمية للغابات الطبيعية في إدلب، ويشارك ضمن آلاف العمال في العمل لحساب تجار يقطعون أشجار الأحراج على جانبي طريق حلب-اللاذقية الممتد لمسافة 125 كيلومترا، ما أسفر عن تدمير 70 في المائة من أشجار الأحراج في إدلب، المعروفة بالمحافظة الخضراء، بعدما أحرقت أو قطعت منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، في ظل ضعف الرقابة والمحاسبة من الفصائل العسكرية المسيطرة على المنطقة، وفق ما أكده الدكتور فايز الخليف وزير الزراعة السابق في حكومة الإنقاذ التابعة للمعارضة السورية.


تنسيق مع الفصائل

ينضم الفارس في الصباح الباكر إلى رفاقه عمال المياومة في رحلة، بسيارة تقلهم إلى مكان التحطيب على بعد 20 كيلومترا من مخيمه. تمر عينه على مساحات الخضرة المتآكلة على جانبي الطريق حيث كان المشهد قبل سنوات قطعة من الجنة كما يقول إذ كانت كثافة الأشجار والخضرة تحجبان لون التربة، ويتخذ الناس من المكان رئة يتنفسون فيها الهواء النقي بعيدا عن سموم المدن وأدخنتها.

ويعمل العمال تحت سمع وبصر الفصائل المسلحة في المنطقة، إذ قال سبعة من العمال تحدث إليهم معد التحقيق، من بينهم الفارس: "نمر عبر حواجزهم ويسمحون لنا بالمتابعة". ويتابع الفارس الذي نزح من حلب عام 2016 أن معظم رفاقه من أبناء المخيمات والشباب العاطل عن العمل، ويتقاضى الواحد منهم 2500 ليرة سورية في اليوم الواحد (حوالي خمسة دولارات).

وأضاف أن التجار يعملون في قطع الأشجار بالتنسيق مع الفصائل العسكرية سواء من خلال معارف أو بحكم القرب من مناطق السكن. وأحيانا يرتب مسؤول من الفصائل مع التجار مقابل نسبة من الأرباح.



حجم الخسائر

يقطع العمال الأشجار من قواعدها باستخدام مناشير تعمل بالمازوت. وبعدها تقطع الأشجار إلى قطع كبيرة كما يشرح حمزة المصطفى أحد العمال قائلا: "إنهم يتولون بعد ذلك تحميل قطع الأشجار على شاحنات كبيرة تنقلها إلى أسواق الأخشاب، وأكبرها في قرية عرب سعيد غرب إدلب، حيث تباع لتجار أو لأصحاب ورش تقطيع الأخشاب"، وهنا أضاف الفارس أن سعر طن الأخشاب في السوق يتراوح بين 75 ألفا (146 دولارا) و100 ألف ليرة (194 دولارا)، في حين كان سعره حوالي ستة آلاف ليرة (12 دولارا) قبل اندلاع الأزمة السورية.

وبينما تقول وزارة الزراعة في الحكومة السورية إن الأشجار الحراجية في إدلب كانت تغطي 80 ألف هكتار، وفقاً لما أكده المهندس محمد نور طكو معاون مدير الزراعة في تصريحات لجريدة الثورة الرسمية في يونيو/حزيران من عام 2013، تقدر حكومة الإنقاذ المعارضة المساحة بحوالي 45 ألف هكتار، تضم 18 مليونا و500 ألف شجرة، إذ اعتبر فايز الخليف أن تقديرات حكومة دمشق تعود للثمانينيات.

وفي عام 2011، كانت محافظة إدلب تضم 70 موقعاً حراجياً، بحسب حكومة المعارضة، منها 20 ألف هكتار من الغابات الطبيعية لحق بها أكبر الضرر، و25 ألفاً من الغابات الصناعية التي تبعد عن مواقع المواجهات. وتضم الغابات 100 نوع من الأشجار والشجيرات الحراجية، وفيها 50 صنفاً من الحيوانات والطيور البرية. ومن بين المواقع الحراجية 20 موقعاً طبيعياً هي الأكثر كثافة، وتقع في منطقة جسر الشغور حيث توجد أكبر محمية طبيعية من الغابات في إدلب. وتمتد هذه المواقع على جانبي نهر العاصي، الذي يدخل المحافظة من قرية القرقور قادماً من حماة (جنوب شرق)، ويغادرها من قرية التلول (شمال غرب) إلى الأراضي التركية.


قصف النظام

تشكل الغابات 13% من مساحة إدلب، التي تلقب بالمحافظة الخضراء، وعلى مستوى البلاد تختص المحافظة بحوالي 18% من مساحة الغابات في سورية لتحتل المركز الثاني بعد محافظة اللاذقية التي تختص بنسبة 30%، أي أنّ المحافظتين بهما ما يقارب نصف مساحة الغابات في سورية.



وخلال عام 2011، بعد اندلاع الحرب في سورية احترق 626 هكتاراً من الغابات في المنطقة المحيطة بجسر الشغور، بحسب سجل دائرة الحراج التابعة للمعارضة في إدلب. وارتفع الرقم في ثلاث سنوات أي عام 2014 إلى 9500 هكتار من أصل 13400 هكتار هي مساحة الغابات في جسر الشغور، أي أن حوالي 75 في المائة من مساحة أكبر محمية طبيعية للغابات في إدلب احترقت.

ويعزو فراس اليوسف المهندس الزراعي في دائرة حراج إدلب التابعة للمعارضة وأحد سكان المنطقة، أسباب الحرائق إلى القصف المكثف من قبل القوات الحكومة السورية لمنع فصائل المعارضة من الاحتماء بتلك الأحراج.

وقال حسام ظليطو، مدير مكتب الدفاع المدني في جسر الشغور الدفاع المدني (مستقل)، إن غالبية الحرائق كانت بفعل القذائف والصواريخ التي أطلقتها القوات الحكومية على المناطق الخارجة عن سيطرتها. ومنذ تأسيس الدفاع المدني في 2013، وثّق حتى أغسطس/آب الماضي 640 حريقاً في منطقة جسر الشغور التي خرجت عن سيطرة النظام السوري في 2012.


آثار الدمار على غابات إدلب وجسر الشغور قبل وبعد القصف والاحتطاب الجائر (العربي الجديد)











وأشار اليوسف إلى أنّ أكثر الغابات المتضررة هي غابات الحمامة والشيخ سنديان والحسينية وعين جرون، وهي غابات طبيعية غرب نهر العاصي، ومن أبرز أشجارها الزرود، والسنديان، والتين البري، والزيتون البري، والزعرور، والميس، والاسترك، والسماق، والغار، والصنوبر البروتي والثمري، والسرو، والبطم.

وتتميز منطقة جسر الشغور بكثرة غابات الصنوبر البروتي، وهي أشجار قادرة على النمو في بيئات مختلفة بما فيها البيئة الصحراوية وتلعب دورا فاعلا في حماية التربة من الانجراف أثناء هطول الأمطار الغزيرة شتاء.




ثروة منهوبة

يقول المهندس فراس اليوسف إن أعمال الحرق والقطع طاولت غابات بأكملها، وتسببت في تدمير ما لا يقل عن 35 ألف هكتار من أصل 45 ألف هكتار في إدلب.

وتقدر دائرة الحراج متوسط عدد الأشجار في الهكتار الواحد بحوالي 500 شجرة، تزن كل منها نحو 400 كيلوغرام. وبحساب متوسط سعر طن الأخشاب عند 150 دولارا يتجاوز حجم الخسائر من غابات إدلب مليار دولار منذ اندلاع الأزمة السورية، كما يقول اليوسف إن تعويض ما خسرته غابات إدلب في سبع سنوات يحتاج إلى مئات السنين. وأضاف أن الأشجار التي قطعت أو أُحرقت منها أشجار طبيعية يبلغ عمرها نحو 250 سنة، في حين يصل عمر الأشجار الصناعية إلى 30 عاما.

ويحذر الدكتور الخليف وزير الزراعة السابق في حكومة الإنقاذ من أن تدمير الغابات له تأثيرات بيئية سلبية في ظل انتشار حراقات النفط البدائية في مناطق المعارضة السورية.

غابات إدلب ليست الوحيدة التي تتعرض للقطع فهناك أربعة مواقع حراجية غربي مدينة حلب، هي كفر كرمين وكفر حلب، والكسيبية وجبل سمعان، فيها 1850 هكتاراً معظمها من أشجار الصنوبر الحلبي، تعرضت أيضاً للقطع بنسبة 70 %، بحسب  إبراهيم حميدي المهندس السابق في قسم الحراج في حلب والذي ترك وظيفته في حكومة النظام بداية عام 2013.


غياب سلطة القانون

تنص المادة 31 من قانون الحراج السوري رقم 6 لعام 2018 الصادر في 4-3-2018، على أنه "يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة كل من تسبب بنشوب حريق في الحراج أو الأراضي الحراجية أو المحميات الحراجية أو مناطق الوقاية نتيجة إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة النافذة وتشدد العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤقتة إذا نجم عن التسبب بنشوب حريق إصابة إنسان بعاهة دائمة، وتشدد العقوبة إلى الأشغال الشاقة مدة لا تقل عن سبع سنوات إذا نجم عن التسبب بنشوب حريق وفاة إنسان".

أما المادة 32 فتنص على أنه "يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبالغرامة من 500 ألف إلى مليون ليرة سورية كل من أقدم دون ترخيص مسبق على قلع أو قطع أو إتلاف أو تشويه الأشجار والشجيرات في حراج الدولة أو الإتيان بأي عمل يؤدي إلى إتلافها".

لكن تبقى هذه التشريعات غير قابلة للتطبيق في المناطق الخارجة عن سيطرة القوات الحكومية. ويقول العامل أحمد الفارس إنه لم يلتق بأحد من الشرطة الحرة التي تعمل في مناطق المعارضة خلال فترة عمله في التحطيب منذ أوائل 2016.



ولدى الشرطة الحرة 32 مخفرا توجد في مدينة معرة النعمان جنوب إدلب والقرى والبلدات المحيطة بها وحارم وسلقين قرب الحدود التركية وعدة بلدات غرب حلب، لكن الرائد حسين الحسيان مسؤول العلاقات الإعلامية في الشرطة الحرة في إدلب يقول إن غالبية الأحراش تقع خارج مناطق انتشار الشرطة. وأضاف أن الشرطة نفذت 204 ضبوط لعمليات حرق أو قطع أشجار في مناطق عملها في عام 2017.

وزارة الزراعة في حكومة الإنقاذ يقتصر دورها في مواجهة التحطيب الجائر على نشرات توعية، تبرز أهمية الشجرة ومكانتها في الإسلام. وألقت الوزارة الكرة في ملعب الفصائل العسكرية وقالت في رد على معد التحقيق إنه يجب على الفصائل حماية المواقع الحراجية في مناطق سيطرتها. ودعت إلى إنشاء مخافر حراجية وتسيير دوريات لتأمينها.



وبينما تنفي فصائل المعارضة الموجودة بالمنطقة أي دور أو تواطؤ في قطع أشجار الغابات، لفت فؤاد سيد عيسى عضو مجلس إدارة منظمة بنفسج للإغاثة والتنمية العاملة في إدلب إلى أن المنظمة، ومقرها تركيا، قامت بالعديد من حملات التشجير لمحاولة تعويض جزء بسيط من "الكارثة" نتيجة الاحتطاب. وأضاف أن منظمة بنفسج غرست أكثر من 50 ألف شتلة في مشروعها الأول في بداية 2016 في مناطق إدلب وأريحا وجسر الشغور ومعرة النعمان وما حولها ثم أتبعته بمجموعة من الحملات المتتالية للتشجير خلال العامين التاليين بجهود متطوعيها وبالتعاون مع العديد من المجالس المحلية والفاعليات المدنية فيها. لكنه أشار إلى أن ما تمت خسارته يحتاج إلى منظمات دولية ومبالغ كبيرة وسنوات عديدة من أجل إعادة جزء منه.

في هذه الأجواء، يدق الشتاء الأبواب ويشتد الطلب على الحطب في الأسواق. ويقول أبو سعيد الذي يطل منزله على الطريق الدولي بين جسر الشغور وإدلب: "عشرات الشاحنات تمر يوميا محملة بالأشجار المحتطبة"، بينما يتابع الفارس حركة الشاحنات التي تصب إيراداتها في جيوب تجار يدبرون أمورهم مع أصحاب النفوذ، ويجلس وقت الغداء مع رفاقه على جذوع أشجار قطعوها. يتقاسمون أرغفة مدهونة بدبس البندورة أو الزعتر، وفي الحلق غصة من المشاركة في تدمير مساحات خضراء كانت يوما ما رئة نقية لسورية".

*تم إعداد التحقيق بدعم من شبكة (أريج) "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية"
دلالات