تدمر؛ حيث تنتهي أوروبا؟

19 ابريل 2016
تدمر السورية (Getty)
+ الخط -
يقال في أساطير الإغريق إن الأميرة الفينيقية أوروبا كانت على ساحل بحر مدينتها "صور" مع وصيفاتها عندما اختطفها كبير آلهة الإغريق زيوس بعدما تنكّر على هيئة ثور أبيض، وحملها إلى كريت حيث نصبها ملكة لكي تعطي اسمها للقارة الواقعة شمال اليونان في حركة أسطورية واضحة ترمز لمسير الحضارة من شرق المتوسط إلى القارة التي كانت من دون اسم، وبالتالي من دون وعي بالذات. ولكي تكتمل دورة الأسطورة جاء الأمير قدموس من صور ليفتش عن أخته أوروبا ولكنه لم يجدها، فاستقر في اليونان وأسس مدينة طيبة وأصبح ملكها. ثم علّم الإغريق الأبجدية الفينيقية التي منها اشتقت الأبجدية اليونانية لتنسال منها ملحمة الإغريق المعرفية. أي أن أوروبا، وفق أساطير الإغريق التأسيسية، بدأت بوحي من عندنا.
دارت دورة الحضارة وأصبحت أوروبا منبعها ومركزها ومستقرها ومانحها. ورتبت أوروبا العالم وتاريخه وفق هوى تميّزها وجعلت نفسها في المركز منه: سليلة الحضارة الإغريقية وحاملة شعلتها في تسلسل تاريخي مستمر منذ العصر الكلاسيكي ومروراً بعصر النهضة وحتى العصر الحديث. على حين تناثرت الثقافات الأخرى حول المركز في علاقات دونية معه، وبشكل خاص شرق المتوسط وجنوبه، أي العالم العربي، اللذين كانا موئلاً للحضارة الكلاسيكية وحرمتهما أوروبا الحديثة من هذا التراث بسبب تمايزهما الديني والثقافي من جهة وبسبب تبعيتهما السياسية والاقتصادية منذ عصر الاستعمار وإلى اليوم من جهة أخرى. أي أن العرب، وفق أساطير أوروبا الحديثة، لا ينتمون للحضارة الكلاسيكية حتى وإن كانت قد أينعت على أرضهم.



بين أساطير الإغريق الأول وأساطير الغرب المعاصر تبدأ أوروبا وتنتهي: حاوية للحضارة الكلاسيكية ومحتكرة لتراثها حتى ذلك منه الذي لا يقع على أرضها، مثل مدن الأناضول وسورية ومصر التي تعود للعهود الإغريقية والرومانية والبيزنطية، أو فلسفة العصور الوسطى الإسلامية التي هضمت التراث الإغريقي وأعادت إنتاجه بما يتوافق وأسئلة الديانات التوحيدية، أو، مؤخراً، أراضي الشرق والجنوب من أوروبا الجغرافية نفسها التي لا تمت بصلة ثقافية إلى أوروبا الغربية، إلا من حيث انتمائها الديني للمسيحية، وهذه أيضاً شرقية الهوى والمنبت.
وقد جاءت مأساة تدمر في السنة الأخيرة لتعيد التركيز على صورة أوروبا عن نفسها وكيفية إدارتها لهذه الصورة سياسياً وثقافياً وحتى آثارياً ومعمارياً وترميمياً. تدمر التي خسرها النظام السوري لداعش في مايو/ أيار 2015 واستعادها منه في مارس/ آذار هذا العام، في لعبة قذرة لم نزل نجهل تفاصيلها، عانت من التدمير الوحشي الذي مارسه داعش على ناسها وآثارها، وتعاني الآن مما يمكن أن نسميه اهتماماً زائداً من العالم. هذه التدمر، عروسة الصحراء كما يقال، تحمل في الغرب اسم "بالميرا" الرومانسي وتُقدم على أنها المدينة الإغريقية - الرومانية في قلب الصحراء السورية.

وقد بدأت تظهر اليوم في بعض الأدبيات الأكاديمية الغربية على أنها النقطة التي تنتهي فيها أوروبا، ربما كأسلوب لتبرير هذا الاهتمام الأوروبي المتزايد بترميم ما خربه داعش فيها على أنه جزء من التراث الأوروبي الذي استحوذ على التراث اليوناني - الروماني، أو التراث الكلاسيكي. هو كذلك طبعاً، لكنه ليس تراثاً أوروبياً فقط، إنما هو تراث سوري أيضاً، بل وعربي بمعنى أنه ليس فقط تراث قائم على أرض سورية، عربية لاحقاً، ولكنه تراث سوري وعربي بمعنى انتمائه ثقافياً إلى الحضارة التي ساهم في بنائها السوريون والعرب قبل الإسلام وبعده أيضاً، أي الحضارة الكلاسيكية، التي تعرفها الأدبيات الغربية الحديثة على أنها أوروبية، بتجاهلٍ تام لرؤية الحضارة تلك عن نفسها أنها مركّبة من ثقافات العالم القديم كله، وتجاهلٍ أكبر لمساهمة الأقوام التي قطنت شرق المتوسط والجزيرة العربية في العصور الكلاسيكية في بناء هذه الحضارة.


وتأتينا الأصوات اليوم من كافة أنحاء أوروبا عن ضرورة إعادة بناء "بالميرا" كتعبير عن مقاومة الحضارة للتخريب. ونسمع أن إيرينا بوكوفا، المديرة العامة لليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) تريد البدء بأسرع وقت بتقييم حال المنشآت الأثرية التي دمرها داعش في تدمر تمهيداً لإعادة بنائها، وأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي ما زالت طائراته تدّمر في سورية منازل ومنشآت عامة وبنى تحتية، يريد المساهمة في إعادة الترميم أو البناء هذه وأنه على استعداد لإرسال خبراء روس فوراً. ونرى مناظرات ومؤتمرات ومحاضرات تعقد في أوروبا عن "بالميرا" وتاريخها وأوابدها وأفضل وسيلة لإعادة جلو معالمها التي وُضعت قبل سنوات على لائحة اليونسكو للتراث الثقافي الإنساني. فهل هذا الاهتمام ناجم من أهمية تدمر للتراث الثقافي الإنساني فقط؟ أم أن فيه من الاستحواذ الحضاري ما يجعل الدافع إليه أقل إنسانية وعالمية وأكثر خصوصية واستئثارية؟ لماذا لم تهتم اليونسكو والمؤسسات الغربية الأكاديمية بالقدر نفسه بالمواقع الأخرى التي دمّرتها الحرب الأهلية العبثية في سورية أو العراق؟ خاصة وأن بعض هذه المواقع، مثل نمرود ومتحف الموصل ومأذنة حلب ومتحف معرة النعمان، ذات أهمية تاريخية استثنائية تعادل أهمية معبدي بل وبعل شمين وقوس النصر في تدمر؟

لا يمكننا هنا حقاً تجاهل الطابع الكلاسيكي لتدمر كمؤثر أول في الاهتمام العالمي بها. ولا أريد أن أبخس تدمر حقها من الاهتمام العالمي، بل إنني مرحب به وبما يمكن أن يؤدي إليه من استعادة بعض ألق هذه المدينة الرائعة. ولكني لا أريد لهذه المدينة التي بناها التدمريون ذوو الأصول العربية والثقافة الكلاسيكية الإغريقية أن تنسلخ عن أرضها وتاريخها وتكون رمزاً للحضارة الغربية. بل أريد لها أن تستعاد إلى التراث السوري، والتراث العربي أيضاً، كرمز لانفتاح حضاري عاشته المنطقة طوال حقب طويلة من تاريخها المديد، انفتاح سمح لها بتمثل وترجمة وإعادة إنتاج الفن والعمارة الكلاسيكيين اللذين أتياها مع قدوم الإغريق إليها في القرن الرابع قبل الميلاد، اللذين استوطناها وتطورا فيها وضمن عجينتها الحضارية، لكي يصبحا جزءاً من ثقافتها ودلالات على تطورها وإنسانيتها وكلاسيكيتها.


ما أريده لتدمر هو أن تكون رسالة الثقافة السورية الكلاسيكية إلى العالم: رسالة الانفتاح والتكامل والتواصل والانتماء. أو كما كتب الشاعر الإغريقي الكلاسيكي الثقافة والوفاة، السوري المولد، والصوري (من صور) النشأة، ميلياغروس من غدارا (قرية أم قيس على الحدود السورية - الأردنية اليوم) الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد وأوصى أن تكتب قصيدة رثائية على قبره هذه نهايتها: "فإذا كنت سورياً أيها العابر‏/ فقل عند قبري سلام‏/ وإذا كنت فينيقياً فقل نايديوس/ وإن كنت يونانياً قل خايرية‏/ فهي كلها سواء".


أستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية
M.I.T. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
المساهمون