تخويف "فتح" من نفسها
على ماذا تجتمع فتح اليوم؟ هذا سؤال مركزي في فهم حركة أو جماعة أو حزب، والواضح أن ما يجمع فتح وجماهيرها مشوش ومحل خلاف! فالبرنامج السياسي خيار الرئيس ومجموعة معه، بعضهم ليس من فتح أصلاً، ويراد للجماهير تلقف البرنامج السياسي والدفاع عنه، وتحصل الهزّات العنيفة حين يخرج فتحاوي من أحد مخيمات اللجوء ليرفع صورة الرئيس الذي "لا يريد إغراق إسرائيل باللاجئين".
هل هو التاريخ المشترك؟ لكنه، في النهاية، رواية وكيله ومتعهده، وقبل ذلك كله، لا بد مما يدعّمه في اللحظة والراهن، فلا يمكن أن تبني ولاء قاعدتك على أنك سليل صناع تاريخ الحركة، وأنت تستبدل بهم، كل حين، وجوهاً جديدة على النقيض تماماً من مفردات تاريخك، وتصرّح بأنها في مقلب آخر تماما. وفي الوقت عينه، لا يمكن لأي داهية في السياسة والتضليل أن يقنع الجماهير أن ما تفعله، اليوم، هو الاستمرار المعقول والطبيعي للتاريخ المشترك و"الرصاصة الأولى".
أما الشبكة المصلحية والزبائنية التي ترعاها فتح والسلطة، فهي بطبيعتها أداة جمع وتشتيت في آن واحد، لأنها محكومة بالتصدعات والانشقاقات وتلاعب الداعمين، والثابت أن هذه الشبكة ظلت محكومةً بمنطقة الزعامة والولاءات الشخصية، فالوظائف والرعاية الاجتماعية لأبناء التنظيم في منطقةٍ بعينها يتولاها القيادي أبو فلان. وفي ظل ترهل وظيفي هائل ورواتب من دون وظائف حقيقة، يبدو أن أبناء الحركة يعملون عند أبو فلان، لا السلطة والحركة، ومجرد خروجهم لمظاهرة بحاجة لرأيه وإشارته، فهو التنظيم والحركة مجسداً، ووعي قيادة الحركة بهذا الواقع، هو ما يدفع، كل حين، إلى ضرب قيادي هنا، أو تحجيم قائد هناك، أو حتى إهانته على الهواء مباشرة، فلا يريد المسيطرون على الحركة أن تستخدم أساليبهم ضدهم.
ما الذي يجمع فتح إذن؟ مما يجمع فتح اليوم، آخَرُها، أي حماس. وانقسام 2007 بأحد معانيه هو منح فتح مبرر وحدة. أصبحت فتح مهددة في موقعها وسيطرتها على المجال السياسي الفلسطيني، فضخّمت لحظة الانقسام ومركزتها، صار الانقسام في الدعاية الفتحاوية ثالث النكبة والنكسة، وانشغلت فتح بالآخر الذي ستعيد فتح تعريف نفسها لمواجهته، وقيادة الحركة عرفت تماما كيف تتعامل مع أعطية القدر.
مشكلة محمد دحلان أنه المتهم بوقوع هذه الضربة الأليمة في كبرياء فتح وحضورها، وفي الوقت نفسه، هو من يعي تماماً كيف استغلّت قيادة الحركة الضربةَ تلك وضخمتها لتعزيز مكاسبها وحضورها. وإن كان هنالك من خلاف بين عباس ودحلان، فهو يتركز في هذه النقطة تحديداً، تضخيم إصابة فتح واتهام دحلان بتسبيبها، وبعد ذلك كله، استغلالها إلى أبعد مدى.
تلتقي حماس، اليوم، مصلحيّا مع تيار دحلان، بل فتح غزة، في لحظة لم يعد فيها ممكناً إنكار وجود هذا التيار الضخم الذي حاول أبو مازن نسيانه. حماس لا تعطيه أكثر من حجمه، كما فعلت مع مجموعات صغيرة سابقاً، هو موجود ومكامن قوته هي الوصفة الفتحاوية نفسها، زعيم بشبكة ولاءات ومصالح، وعداء مستحكم لمن أسقط غزة من حسابات فتح.
يمكن أن يفلح في حالة فتح وكوادرها، التخويف المستمر بتيار دحلان المتهم بالتخطيط لشق، لمنع أي مطلب حركي ينازع قيادة الحركة الداخلية موقعها وامتيازاتها، إلا أن القبول بمنطق قيادة فتح والسلطة لا يلزم أحدا خارجها كما هو واضح.
اليوم، تتكرر أزمة معهودة عند قيادة فتح، فالإفراط في استخدام التكتيك (التخويف من شق دحلان فتح) والاتكاء عليه، يعني تحويله استراتيجية، وهو، بكل طاقته وتضخيماته، لا يمكن أن يكون استراتيجية. عندها يأتي خصم (حماس) مرن (يلتقي مع دحلان خصمه المحلي والإقليمي الألدّ) يستخدم التكتيك نفسه (التخويف من شق دحلان فتح)، بحدوده المعقولة (مسيرة هنا وتجمع هناك ومنابر إعلامية)، ليحقق نتائجه المبتغاة.