19 أكتوبر 2019
تحولات القوة العالمية
شهدت القوة العالمية عشية نهاية الحرب الباردة، وخصوصاً بعدها، تحولات عميقة، تتمثل بالأساس في تراجع تدريجي بطيء، ولكن مستمر، في الفوارق في مقومات القوة وتوزيع القدرات بين القوة الأولى في العالم والقوى الأخرى، التقليدية منها والصاعدة. فقد ولى العهد الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي يجمعان فيه ما أوتيا من مصادر القوة، بشكلٍ يجعلهما يتفوقان على بقية دول العالم مجتمعة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، انفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي، نظام الأحادية القطبية بكل المقاييس.
بيد أن السيطرة الأميركية الواضحة تبقى نسبية، وهي تتآكل شيئاً فشيئاً، ليس لأفول أميركا، وإنما لتحولات القوة العالمية، فالعالم يعرف تعدّداً مستمراً لمراكز القوة، وانبثاثاً للقوة التي لم تعد مركّزة في دولة واحدة، أو دولتين أو قلة من الدول، فعدد القوى الناشئة في تزايد. ومن دون أن يعني ذلك إضعافاً للقوة الأولى في العالم، فإنه يدل على التقليل من الفوارق في توزيع مقومات القوة ومواردها. وعليه، من المستبعد جداً أن تستحوذ قوة واحدة مستقبلاً على حوالى ثلثي إجمالي الناتج المحلي العالمي، كما كان الحال مع الولايات المتحدة طوال القرن العشرين تقريباً. والسبب هو تعدّد مراكز القوة الاقتصادية في العالم كما قلنا، كما يدل على ذلك الصعود القوي للصين، فالأخيرة تجاوزت، في ظرف خمس سنوات، أربع قوى اقتصادية (اليابان، ألمانيا، بريطانيا وفرنسا) لتصبح ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد أميركا. وهناك قوى أخرى صاعدة مثل كوريا الجنوبية، وأخرى حديثة الصعود بعض الشيء مثل الهند والبرازيل.
يقود تزايد عدد القوى الاقتصادية عالمياً بالضرورة إلى تقليص الهوة بين مقدّرات القوة الأولى ومقدّرات القوى الأخرى. بالطبع، تبقى الفوارق كبيرة بين أميركا وهذه القوى، بما في ذلك الصين، لكن النمو الاقتصادي لهذه القوى الصاعدة يقلل حسابياً من حصة أميركا من إجمالي الناتج المحلي الخام العالمي.
وتعد آلية الدول العشرين التي تعقد قممها الاقتصادية منذ الأزمة المالية-الاقتصادية لسنة 2008-2006، آخرها القمة المنعقدة في الصين الأسبوع الماضي، دلالة على هذا التحول في القوة العالمية، فالعمل بهذه الآلية يغض النظر عن نتائجها، إقرار من القوى الكبرى، الغربية تحديداً، بأن مشكلات العالم الاقتصادية أعظم وأعقد من أن تعالج في إطار مجموعة السبع/ الثماني، أو منظمتي بريتون وودس (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي). ومن ثم فميلاد مجموعة العشرين نتاج إقرار من المجموعة الأولى بتحولاتٍ عميقةٍ في توزيع القوة العالمية، وبالتالي، بضرورة إشراك القوى "الجديدة" في القرار العالمي، وتحمل أعبائه السياسية والمالية.
من دلالات تحولات القوة العالمية أيضاً الصعوبة المتنامية في تحويل مكاسب القوة من مجالٍ
إلى آخر، فمثلاً القوة العسكرية الروسية لا تجعل منها قوة اقتصادية، والقوة العسكرية الأميركية لا تسمح لها بمواجهة كل التحديات بالشكل الذي تريده، فهي لا تنفع في الضغط على الحلفاء فيما يخص بعض القضايا. بمعنى أن عدم قابلية تحول القوة يجعل من الصعب نقل المكاسب المحقّقة في مجالٍ ما إلى مجال آخر. فضلاً عن ذلك، هناك اتجاه ثقيل في العلاقات الدولية، وهو فك الترابط بين القطبين الاقتصادي والعسكري، فعلى الرغم من زوال الشروط المفروضة عليها بسبب الحرب العالمية الثانية، فإن اليابان وألمانيا لم يتحولا إلى قوتين عسكريتين، على الرغم من قدراتهما الاقتصادية المعتبرة وبعض المتغيرات الأمنية. في المقابل، تعد روسيا ثاني قوة عسكرية في العالم، لكنها تأتي تقريباً في ذيل الترتيب الاقتصادي للقوى الكبرى.
تكمن الدلالة الأخرى لتحولات القوة في تراجع مصادر وظهور مصادر أخرى، ففي السابق، كانت الأراضي وشساعتها من بين مصادرها الأساسية، أما اليوم فالقوة المالية والتحكّم في المعلومات (تكنولوجيات الاتصال، أجهزة التجسس، التحكّم في الإنترنت...) يعدان من أهم مصادر القوة، وليس مصادفةً أن تكون القوة العظمى الوحيدة في العالم الأكثر تقدماً في هذين المجالين. فالمعلومات ونوعيتها وتوفرها في الوقت نفسه لا يصنع فقط الفرق بين الأمم المتقدمة في الحياة الاقتصادية اليومية، بل في مسارح المعارك العسكرية، فالمعلومات هي عصب الحرب التي تختزل بالأساس في الحرب الجوية.
لا تنسحب هذه التحولات على العلاقات بين الدول فقط، بل على تفاعلاتها مع بيئتها غير الدولية، نظراً لتعقد السياسية الدولية التي انتقلت من مرحلة الدولي إلى مرحلة العالمي، بسبب تنامي الظواهر غير الدولتية المحلية والعابرة للحدود والنفوذ المتزايد للفواعل غير الدولية النافذة، الشرعية منها والإجرامية.
لكن، هل تدل هذه التحولات على تراجع القوة العسكرية في العالم؟ تبقى الأخيرة الملجأ الأخير بالنسبة للدول لحماية نفسها، أو لتنفيذ بعض سياساتها فيما يخص القوى الكبرى. لكن الكلفة السياسية والاقتصادية لاستخدامها في ارتفاع متزايد محلياً وخارجياً... وعلى أساس كل ما تقدّم، يمكن القول إن من المرجح للغاية أن تكون الولايات المتحدة أول وآخر قوة عظمى (بالمعنى المتعارف عليه) يعرفها العالم.
بيد أن السيطرة الأميركية الواضحة تبقى نسبية، وهي تتآكل شيئاً فشيئاً، ليس لأفول أميركا، وإنما لتحولات القوة العالمية، فالعالم يعرف تعدّداً مستمراً لمراكز القوة، وانبثاثاً للقوة التي لم تعد مركّزة في دولة واحدة، أو دولتين أو قلة من الدول، فعدد القوى الناشئة في تزايد. ومن دون أن يعني ذلك إضعافاً للقوة الأولى في العالم، فإنه يدل على التقليل من الفوارق في توزيع مقومات القوة ومواردها. وعليه، من المستبعد جداً أن تستحوذ قوة واحدة مستقبلاً على حوالى ثلثي إجمالي الناتج المحلي العالمي، كما كان الحال مع الولايات المتحدة طوال القرن العشرين تقريباً. والسبب هو تعدّد مراكز القوة الاقتصادية في العالم كما قلنا، كما يدل على ذلك الصعود القوي للصين، فالأخيرة تجاوزت، في ظرف خمس سنوات، أربع قوى اقتصادية (اليابان، ألمانيا، بريطانيا وفرنسا) لتصبح ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد أميركا. وهناك قوى أخرى صاعدة مثل كوريا الجنوبية، وأخرى حديثة الصعود بعض الشيء مثل الهند والبرازيل.
يقود تزايد عدد القوى الاقتصادية عالمياً بالضرورة إلى تقليص الهوة بين مقدّرات القوة الأولى ومقدّرات القوى الأخرى. بالطبع، تبقى الفوارق كبيرة بين أميركا وهذه القوى، بما في ذلك الصين، لكن النمو الاقتصادي لهذه القوى الصاعدة يقلل حسابياً من حصة أميركا من إجمالي الناتج المحلي الخام العالمي.
وتعد آلية الدول العشرين التي تعقد قممها الاقتصادية منذ الأزمة المالية-الاقتصادية لسنة 2008-2006، آخرها القمة المنعقدة في الصين الأسبوع الماضي، دلالة على هذا التحول في القوة العالمية، فالعمل بهذه الآلية يغض النظر عن نتائجها، إقرار من القوى الكبرى، الغربية تحديداً، بأن مشكلات العالم الاقتصادية أعظم وأعقد من أن تعالج في إطار مجموعة السبع/ الثماني، أو منظمتي بريتون وودس (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي). ومن ثم فميلاد مجموعة العشرين نتاج إقرار من المجموعة الأولى بتحولاتٍ عميقةٍ في توزيع القوة العالمية، وبالتالي، بضرورة إشراك القوى "الجديدة" في القرار العالمي، وتحمل أعبائه السياسية والمالية.
من دلالات تحولات القوة العالمية أيضاً الصعوبة المتنامية في تحويل مكاسب القوة من مجالٍ
تكمن الدلالة الأخرى لتحولات القوة في تراجع مصادر وظهور مصادر أخرى، ففي السابق، كانت الأراضي وشساعتها من بين مصادرها الأساسية، أما اليوم فالقوة المالية والتحكّم في المعلومات (تكنولوجيات الاتصال، أجهزة التجسس، التحكّم في الإنترنت...) يعدان من أهم مصادر القوة، وليس مصادفةً أن تكون القوة العظمى الوحيدة في العالم الأكثر تقدماً في هذين المجالين. فالمعلومات ونوعيتها وتوفرها في الوقت نفسه لا يصنع فقط الفرق بين الأمم المتقدمة في الحياة الاقتصادية اليومية، بل في مسارح المعارك العسكرية، فالمعلومات هي عصب الحرب التي تختزل بالأساس في الحرب الجوية.
لا تنسحب هذه التحولات على العلاقات بين الدول فقط، بل على تفاعلاتها مع بيئتها غير الدولية، نظراً لتعقد السياسية الدولية التي انتقلت من مرحلة الدولي إلى مرحلة العالمي، بسبب تنامي الظواهر غير الدولتية المحلية والعابرة للحدود والنفوذ المتزايد للفواعل غير الدولية النافذة، الشرعية منها والإجرامية.
لكن، هل تدل هذه التحولات على تراجع القوة العسكرية في العالم؟ تبقى الأخيرة الملجأ الأخير بالنسبة للدول لحماية نفسها، أو لتنفيذ بعض سياساتها فيما يخص القوى الكبرى. لكن الكلفة السياسية والاقتصادية لاستخدامها في ارتفاع متزايد محلياً وخارجياً... وعلى أساس كل ما تقدّم، يمكن القول إن من المرجح للغاية أن تكون الولايات المتحدة أول وآخر قوة عظمى (بالمعنى المتعارف عليه) يعرفها العالم.