تحرّر المرأة.. ثورة اقتصادية

08 مارس 2018
+ الخط -
جلست مرةً مع صديقاتٍ، نتجاذب أطراف الحديث. حاول كل منا أن يغني الجلسة بجانبٍ مما درس وفهم. هن قديرات قرّرن أن يحاربن الظّلم والهيمنة. لم يكن لهذه الجلسة أن تدوم أكثر من دقائق، سادها سوء الفهم أكثر من الفهم والرّفض أكثر من القبول. حاولنا فيها أن نتحاور، إلا أنّنا سرعان ما أدركنا أن ليس هنالك متّسعٌ للحوار، وكأنّ اللّغة العربية، على غناها، عجزت عن جسر هوةٍ بنتها العلوم، فقد تبنّينا فكرين مختلفين، تحوّلا إلى لغتين لم يجد الوفاق مكانا له بينهما. فكرٌ تبنّينه، لم ير غير القيم الأخلاقية غايةً عُليا، وعلى ضوئها شرَع بتفسير الواقع، وآخرُ تبنّيته، فسّرهُ متجرّداً منها. حاولت الصديقة "أ" وبلطافةٍ أن تجسر تلك الهوة بقولها "لكنّ الاقتصاد ليس علماً قيمياً!". وأما الصديقة "س" فلم تنطق بكلمةٍ، واكتفت بنظراتِ بقيت ترافقني، لتذكرني أن العلوم قد تشعّبت، فأفقدنا تشعّبها الحوار. كان ذلك قبل حوالى تسع سنواتٍ. ولتلك النساء ولما يمثّلن من فكر أخص اليوم هذا المقال.
في بحثٍ أجريته مع زملاء لي، لدراسة تبعات المساواة على التنمية والتّطوّر، وجدنا أن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شرّعت بريطانيا ودول أخرى ممن تبنّت القانون الإنكليزي، كالولايات المتّحدة وأستراليا وكندا، عدّة قوانين مَنحت المرأة المتزوّجة مساواة كاملة في حقّ الملكيّة، تُوِّجت بقانون حقوق الملكيّة للنساء المتزوجات. كانت تلك خطوة مهمة نحو تحرّر المرأة والسّعي إلى تحقيق المساواة. وقد وُصف هذا التطور بأنه تطور تاريخي، عبّر عنه عضو البرلمان، راسل جورني، خلال نقاشه في مجلس العموم البريطاني بقوله "إننا الآن، ولأوّل مرّة في تاريخنا، بصدد اقتراح قانون يعطي حماية قانونيّة لممتلكات نصف المواطنين المتزوجين في هذه البلاد. حتى هذه اللحظة لم تكن ممتلكات الزوجة تحظى بحماية بموجب القانون" (14 إبريل/ نيسان 1870).
خضعت النساء المتزوجات في تلك الدول قبل هذه القوانين، لمبدأ قانوني يدعى المأوى 
(Coverture)، والذي فرّق بين الزّوج والزّوجة في حقّ الملكيّة، حسب نوع الممتلكات. إذ ساوى بينهما فقط في حق امتلاك الممتلكات غير المنقولة، كالأراضي والعقارات، بخلاف الممتلكات المنقولة أو الخاصة، وهي حرفيا كل ما يمكن نقله، كالثياب والمجوهرات والماشية والنقود والأصول والأسهم والسندات المالية، والتي مَيّز فيها القانون بين الزوج والزوجة، ومنح الزوج الحق المطلق في التّصرّف بهذه الممتلكات، بغض النظر عن مصدرها، إذ اعتُبرت ملكا حصريا للزوج، حتى وإن كانت ملكا للزوجة ما قبل الزواج، أو هدية من أهلها بعد الزواج. وألغى قانون الممتلكات عمليا هذا الامتياز للرجل، وساوى بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بحق الامتلاك والتّصرف بكل أنواع الممتلكات.
بحسب تصورنا النظري، كان لهذا التمييز أن يشوّه الاستثمارات في سوق المال، إذ ردع النساء العزباوات عن حيازة ممتلكات منقولة كالسندات المالية والنقود، حتى وإن أتت بعائدات كبيرة، لأنها لن تجلب لهن أي قدرة اقتصادية، إذا ما اخترن الزواج. وماذا عن الآباء؟ تخيلوا أباً يريد إهداء ابنته أو توريثها بعضا من ممتلكاته. أي نوع من الممتلكات سيختار؟ وبالتالي، أي نوع من الممتلكات سيختار هو نفسه أن يملك؟ من الواضح أن هذه الوضعية القانونية ستؤدي إلى انحياز في الاستثمار في الممتلكات غير المنقولة، كالأراضي والعقارات على المستوى الكلّي.
لم يكن لهذا الانحياز أثرٌ اقتصادي ملموس قبل الثورة الصناعية، إذ كان الاقتصاد مبنيّاً على الزّراعة التي تحتاج إلى الأرض، وإلى الأيدي العاملة بالأساس. إلا أنه مع بداية الثورة الصناعية وصعودها زادت الحاجة إلى الثروات، وخصوصا المادية منها، كالنقود والودائع المصرفية لتنتقل بصورة قروض إلى شركات كبرى، احتاجت هذه الثروات لاستثمارها في قطاع النسيج على سبيل المثال، وفي مشاريع عملاقة أخرى، كسكك الحديد والأنفاق وغيرها. لقد زادت الثورة الصناعية من أهمية الأسواق المالية إلى حد كبير، وبالتالي زادت الحاجة لنجاعة هذه الأسواق. إزاء هذا التطور، أضحت الممتلكات المنقولة، وخصوصا الودائع المصرفية، ركناً من أركان الإنتاج، وأدى تفضيل قطاع كبير من المجتمع الأموال غير المنقولة، إلى عدم تطور سوق الأسهم والقروض التي يحتاجها قطاع المشاريع الآخذ بالتوسع ما بعد الثورة الصناعية. أي أنه كان لتشويه الاستثمارات في الأسواق المالية (إخراج النساء منها) كقطاع مستفيد ومستثمر، إسقاطات على القطاعات الإنتاجية، والتي أدت إلى خسارة اقتصادية على مستوى الدولة. فبحسب هذه النظرية، أدى التطور الاقتصادي تلقائيا إلى زيادة أهمية دور المرأة في الناتج العام، ما أدى إلى زيادة التكلفة الاقتصادية للتمييز ضدها.
من هنا، أبطل قانون الملكية للنساء المتزوجات، والذي ساوى بين الزوج والزوجة في حقوق الامتلاك والتصرف بكل أنواع الممتلكات، الحاجة إلى تجنب حيازة ممتلكاتٍ منقولة، كالنقود والودائع المصرفية، خشية أن يصادرها الزوج. وعليه، توقعنا أن يكون هذا التشريع قد أدى إلى: زيادة الممتلكات المنقولة، زيادة الودائع المصرفية من الأزواج، ما سيؤدي إلى زيادة في القروض المصرفية من جهة، وخفض الفائدة المصرفيّة من جهة أخرى. نمو في القطاع الصناعي، حيث إن خفض نسبة الفائدة يقلل من تكاليف الاستثمار في بناء المصانع، مد سكك الحديد وشق الأنفاق، وغيرها من المشاريع الإنتاجية، والتي تحتاج إلى رأس مال كبير.
متسقا مع هذه التنبؤات، أظهرت دراسة المعطيات أنه كان لقانون المساواة تأثير مباشر على حيازة الأسر للممتلكات المنقولة، إذ زادت نسبتها 7.5% من مجمل الممتلكات. ولم يقتصر هذا التحول في الممتلكات على الملابس والمجوهرات، وإنما انعكس في تطور القطاع المالي، حيث أدى هذا التشريع فعلياً إلى زيادة في المدخرات، وبالتالي إلى زيادة في القروض بنسبة 30% وإلى خفض الفائدة المصرفية بنسبة 10%. وأظهرت القطاعات الإنتاجية المعطيات أن تلك المساواة سرّعت في التحول من الزراعة إلى الصناعة، إذ ترك مزارعون كثيرون الأرض، والتحقوا بالمصانع. فخلال 20 سنة، كان هنالك نمو بنسبة 10% في نسبة الوظائف في القطاع الصناعي المرتبطة حصرياً بقانون الملكية.

في اليوم العالمي للمرأة، من المجدي أن نقف لحظةً، ونحصي نتائج التمييز وتحقيق بعض من المساواة التي حصلت عليها المرأة في دول دون غيرها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. من الصعب المغالاة في القيمة الإنسانية والاجتماعية لهذه المساواة. لكن، ما لم يكن متوقعا في تلك الحقبة ما أحدثته هذه المساواة من ثورة اقتصادية. أنتجت هذه الخطوة نحو تحرّر المرأة نموا اقتصاديا منعه التمييز ضدها، فكانت المساواة بمثابة محرّك دافع للثورة الصناعية. أما اليوم، وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وما زالت المساواة بين المرأة والرجل مغيّبة في دول عديدة، وكثيرة هي الأقليات التي تعاني من التمييز، ويعجّ عالمنا باللاجئين الذين يفتقرون لأبسط الحقوق، يجب أن نوقن جميعنا أن تحقيق المساواة يحمل أكثر من إنجاز أخلاقي.
أقول للصديقة "أ" إن العلوم الاقتصادية، كسائر العلوم الاجتماعية، ليست قيمية، وأنّى لها أن تكون، فهي تربط الأسباب بالنتائج، وتحرّر البحث العلمي من الأحكام القيمية المسبقة. ففي البحث الذي سقته أعلاه كانت المساواة، المتمثلة بسن قانون حقوق الملكية للنساء المتزوجات، صدمة للسوق لا أكثر، فحصنا تأثيرها متجردين من قيميّتها. وكانت النتائج التي خلص إليها البحث بأهمية المساواة في التنمية موضوعية، فأهمية المساواة لم تكن مطروحة عاملا إيجابيا مفهوم ضمنا في سيرورة التنمية، وإنما خلُص إليها البحث، بدون فرضها نظريا.
أقول للصديقة "أ" إن العلوم الاقتصادية، كسائر العلوم الاجتماعية، ليست بقيمية، وأنّى لها أن تكون. فهي تربط الأسباب بالنتائج وتحرّر البحث العلمي من الأحكام القيمية المسبقة، ففي 
البحث الذي سقته أعلاه كانت المساواة، المتمثلة بسن قانون حقوق الملكية للنساء المتزوجات، صدمة للسوق لا أكثر، فحصنا تأثيرها متجرّدين من قيميّتها. كانت النتائج التي خلص إليها البحث عن تبعات المساواة على التنمية والتطور، كانت نتائج موضوعية، فأهمية المساواة لم تكن مطروحة عاملا إيجابيا مفهوما ضمنا في سيرورة التنمية، وإنما خلُص إليها البحث بدون فرضها نظريا. افتراض حتمية وجود ما نراه قيما أخلاقية جزءا من الواقع قد يشوّه ويحرّف فهمنا الواقع. فلو انطلقنا من أهمية المساواة في فهم العلاقات الاقتصادية التي نتجت عن سن قانون المساواة في حق الملكية، فسيكون ذلك بمثابة افتراض لما قد يكون نتيجة (وهذا إشكالي). ومن ناحية أخرى، سيحد من فهمنا الواقع، إذ يلغي إمكانية اكتشافنا وجود رؤىً مغايرة لقناعاتنا. إلا أننا، وعلى الرغم من ذلك، نحدّد القيم التي نود أن نعيش بحسبها. فكون الاقتصاد علما محايدا قيميّا لا يمنع من وجود القيمة جزءا من غايات عليا، والتي من خلال السعي إلى تحقيقها تُشتق السلوكيّات. وللصديقة "س" أقول إن العلوم لم تتشعب، إلا لتجد الحقيقة فتعود لتتحد.
حاول هذا المقال تلخيص دراسة أمضيت فيها بضع سنين. تجلّت فيها أهمية المساواة وتبعاتها على التنمية والتطور، فقد شكّل تشريع قانون حقوق الملكيّة للنساء المتزوجات أحد أركان الثورة الصناعية، وتطور تلك المجتمعات. ولكن ماذا عن أسباب التشريع؟ وما هي الآلية التي أدت إلى سنّه في فترةٍ لم تكن تمتلك المرأة فيها حق الانتخاب؟ هل كان الدافع أخلاقيا، ايمانا بحق المرأة، أم كان نفعيا بحتاً؟ أسئلةٌ لا تقل أهمية لفهم أعمق لماهيّة التنمية والتطور من جهة، ولفهم تحرّر المرأة من جهة أخرى. أسئلة، لو سنحت لي الفرصة لأجالس صديقاتي، لفجرت سجالا بيننا. سجال يتأرجح بين فكرة تتمحور حول ما "حققته" المرأة وأخرى تقابلها تستذكر أن الرجل قد "أعطى". وبين هذه وتلك تأريخ من الظلم والهيمنة. هي جلسةٌ لن تدوم أكثر من دقائق، يسودها مرة أخرى، سوء الفهم أكثر من الفهم والرفض أكثر من القبول، وتنتهي بنظرات ترافقنا لتبقينا في يقظة، حتى إدراك جديد.
250ADFA0-D3A0-480F-B525-C4D30F5A8A19
250ADFA0-D3A0-480F-B525-C4D30F5A8A19
حسني فاروق الزعبي

باحث فلسطيني، أستاذ للاقتصاد في جامعة موسكو للاقتصاد الحديث، ومحرر مرافق في المجلة الاقتصادية Macroeconomic Dynamics

حسني فاروق الزعبي