تحرير الإعلام مطلباً للحراك الجزائري

09 سبتمبر 2019
+ الخط -
يشير شعار "صوتي لا يصل إلى التلفاز، فكيف سيصل إلى الصندوق"، والذي تمّ رفعه في الجمعة الثّامنة والعشرين لمظاهرات الحراك في الجزائر، إلى غلق السلطة التامّ وسائل الإعلام، والذي شمل أيضاً الإعلام الخاصّ، في إطار لعبةٍ لا يتمّ التّعبير فيها إلاّ عن رأي السّلطة، من دون إشارة إلى ما يحمله الشّارع من شعارات، أو تنادي به المعارضة، الطّبقة السياسية والمجتمع المدني، من مبادراتٍ تتجاوز المسار الذي تقترحه السّلطة لحلّ الانسداد، والمتمثّل، فقط، في رئاسيات بعيدة عن الشروط الموضوعية المفضية إلى انتخابات شفّافة. 
منذ انطلق الحراك والإعلام غير مكترث به، ويراه موضوعا محرجا له، لأسباب تتعلّق بالمال الذي يقف وراء القنوات الخاصّة، مال الأوليغارشية التي نهبت المال العام تحت غطاء إنجاز مشاريع عمومية بالمال العمومي وبتسهيلات سمحت له بتكوين رؤوس أموال استخدمها أصحابُها في الحملات الانتخابية الرّئاسية، لتجديد عهدات الرّئيس المستقيل، من ناحية، وللاستثمار فيما يحافظ لهم على ذلك المال، من خلال محاولة إيجاد رأي عام موال للسلطة، من ناحية أخرى.
أمّا القنوات الرّسمية العمومية، فلم تغادر مكانها في خدمة من هو في السّلطة أيّاً كان، حيث 
بقيت، إلى آخر دقيقة، في صفّ الرّئيس المستقيل، ثم اصطفّت، مباشرة، وراء السّلطة ورؤيتها لحلّ الانسداد، وقامت بكلّ ما من شأنه التّعبير عن رأي السّلطة، ومنع الرّأي الآخر من الولوج إلى الشّاشة، أو البروز في حصص النّقاش التي كانت وبقيت لا تعبّر إلا عن الرّأي الواحد من دون غيره.
وقد رفع الحراك، منذ أوّل يوم، مطلب فتح المجال الإعلامي؛ كونه مغلقاً ولا يعبّر إلا عن رؤية السّلطة، وفتحه كفيل بإيصال الإشكالات التي بقيت صامتةً، أو مسكوتاً عنها عقوداً، بالنظر إلى صلتها بمنهجية الحكم، ومقاربة الشّأن السياسي من النّخبة الحاكمة، باعتبارها أنّها شأن حصري لتلك النّخبة، إلى درجة أن الشّأن السياسي أصبح مغلقاً وضبابياً، لا يفهم كنه ما يجري فيه إلا بعض من رجال السّلطة، أو ما اصطلح على تسميته، في الجزائر، الصّندوق الأسود، أو الوحدة القرارية التي تتحكّم في البلاد، وتتنفّذ في إقرار شؤونه.
كما تمّ اعتبار فتح المجال الإعلامي من إجراءات التّهدئة للدخول في أي حوار، حقيقي وجادّ، حيث إنه، مع توالي جمعات الحراك وشهور الانسداد، تبيّنت للجميع حيويّة فتح المجال الإعلامي أمام تدافع الأفكار، ومناقشة المبادرات، وتبادل الرّأي بين المنافحين عن هذا الاتّجاه أو ذاك، والكلّ سواعد لبناء الجزائر. ولكن، مع مرور الوقت، تبيّن شيء آخر، حيث تمّ الاتّجاه نحو الاستقطاب، المرض العضال الذي أصاب حراك الجزائر الأول، في أكتوبر/ تشرين الأول 1988، في مقتل. ولكن، على الرغم من احتفاظ الذاكرة الوطنية بتلك الصورة السّلبية عن الاستقطاب، إلا أنّ السّاحة السياسية متّجهة نحوه، حتماً، في حال عدم إصلاح الوضع، وتكون الأداة الإعلامية، القديمة منها والجديدة، هي السّلاح الأقوى، وتكون الأهداف هي إحياء قضايا الخلافات القديمة: اللّغة، الهوية، والآن الرّاية الأمازيغية الهوياتية، مع ما يحمل ذلك كلّه من تداعيات وآثار مقيتة، بل قاتلة للحراك وللقضيّة الوطنيّة التي أحياها، أي الاتّجاه نحو بناء الجزائر الجديدة.
وقد سبقت الإشارة، في مقالة سابقة لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد"، إلى حيوية الإشهار في توجيه الآلية الإعلامية، وكونه الأداة التي يوجّه بها الخط الافتتاحي لأيّة قناة. وذهبت تلك القنوات مذهب الدّفاع عن رأي واحد، رأي السّلطة، وما تختاره من مسار للخروج من الانسداد، وذلك باستخدام بلاتوهات النّقاش، لتسويق ذلك المسار، مع تهيئة المجال بكوادر إعلامية، وما أسماه بعضهم "الذباب الأكاديمي"، أي جملة من تستضيفهم تلك القنوات من أساتذة وإعلاميين، للدّفاع عن أفكار السّلطة وخطاباتها.
أما عن الشّعار المذكور في مقدمة المقال، والذي لا يمكن أن يمرّ من دون أن تكون له تداعيات 
على الفهم الحراكي لمسار الانسداد الذي يراه بعيدا عن الحل، إذا لم تكن هناك مرافقة في إجراءاتٍ كثيرةٍ، لعلّ أهمّها تحرير الإعلام، بشقّيه العمومي والخاصّ من الرّأي الواحد، وفتحه واسعا أمام الرّأي الآخر والنّقاشات التي تتناول كل التّوجهات في إطارٍ من ثراء السّاحة بالأفكار السياسية ومبادرات الحلّ للانسداد، بما يوفّر أرضياتٍ، وليس أرضية واحدة للنقاش، وللمسار التوافقي لمختلف الأطياف السياسية الجزائرية.
ويعبّر الشعار، من ناحية أخرى، عن أن رهان فتح المجال الإعلامي إذا فشل، وجر السّاحة السياسية إلى الاستقطاب، فإن التأثير السيئ سيمس المجال السياسي، خصوصا محور هذا المجال، وهي الانتخابات الرئاسية التي يقول النظام إنه يقوم بكل ما من شأنه لتكون شفافة ونزيهة، تنتهي إلى انتخاب رئيس شرعي، يتكفل بفتح الورشات الإصلاحية التي يطالب بها الحراك منذ بدايته في فبراير/ شباط الماضي.
قيل قديما إنّ "معظم النّار من مستصغر الشّرر"، وهو ما يشير إلى أنّ غلق المجال الإعلامي يرمز إلى ما هو أكبر منه وأعظم، وهو غلق المجال السياسي، ومن ثمّ منع الانتخابات النظيفة والشفّافة من أن تكون منتهى الحراك الذي نجح في منع ثلاث انتخابات، اثنتين حقيقيتين، هما انتخابات العهدة الخامسة وتلك التي كانت ستجري في 4 يوليو/ تموز الماضي، وأخرى كانت محتملة، وهي التي تعهّد الرّئيس المستقيل بتنظيمها، بعد عام، في حال قُبلت منه مبادرتُه التي ألغى بها الخامسة، وحاول تمديد عهدته الرّابعة، لولا الحراك ومرافقة قيادة الأركان التي ضغطت باتّجاه الاستقالة/ الإقالة. وبما أنّ قيادة الأركان تصرّ على أن الانتخابات يجب أن تجري في آجال قريبة، بل قرّرت تاريخ دعوة الهيئة النّاخبة في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، فإنّ فتح المجال الإعلامي أصبح أمرا حيويا، إذ لا يمكن الذّهاب نحو تلك الانتخابات بدون تحرير الكلمة وفتح باب النّقاش للكلّ، وعلى كلّ القنوات، العمومية والخاصّة.
فتح المجال الإعلامي قضية استراتيجية، ولا يمكن التّغاضي عنها، ولا اعتبارها مسألة ثانوية أو تعجيزية، بل هي من أمّهات القضايا التي بدونها لا يمكن اعتبار أنّ الحراك انطلق، أو أنّه في مسار فرض حلّ للانسداد، إذ لم يصل صوته إلى الآذان، فكيف به سيخرج، نزيها، نظيفا وشفّافا، من الصّندوق؟.. إنّها مسألة لا يجب السّكوت عنها، حتّى مع اعتبار أنّ منّصات التّواصل الاجتماعي تعوّض نوعا من ذلك النّقص، ذلك أنّ الناس ما زالوا يعتبرون الشّاشة أداة توصيل الرّأي. وبتعدّديته يمكن القول إن ثمّة انفتاحا وثمّة صدقية في السّير نحو اقتراع نظيفٍ، نزيه وشفّاف.
هل يمكن تصديق السّلطة بأنّ الانتخابات ستكون صادقة، وستفرز رئيسا شرعيا، إذا لم يكن 
هناك منهج اتّصال جديد، وتسويق للبرامج الانتخابية بكل حرّية. وذلك أمر لا يمكن القيام به، في وقت قصير، إذ لم تفرز الأشهر الماضية إعلاما متفتحا، وهو من مطالب الحراك؟ وكيف يمكن اعتبار الانتخابات بذلك المقام من الصّدقية والإعلام مغلق، موصد وباتّجاه واحد، لا ينطق إلا بلسان السّلطة، أو من ينافح عن رأيها ويقبل بما تراه دون الرّؤى الأخرى، ودون وجهات النّظر المعاكسة، ليس لمسار الانتخابات، ولكن لمقاربتها ولما يمكن أن تفرزه، في ظلّ بقاء الإعلام وحريّة التّعبير مُغيّبين، غائبين، ولا يُسمع لغير السّلطة صوت؟ سؤالان يشرحان الشّعار، وينطقان بما لم ينطق به، ويصلان إلى ما يريد الوصول إليه، والمعنى النّهائي، بل الجواب الشّافي لذلك الشّعار، انتخابات بدون إعلام متفتح لا تملك الصّدقية، ولا يمكن اعتبارها نظيفة، نزيهة وشفّافة.