هكذا لخص محمود عبد الفضيل، أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة والعضو السابق في مجلس إدارة البنك المركزي، مشهد الاقتصاد المصري في الوقت الحالي.
وتتعلق الأنظار بالمحافظ الجديد للبنك المركزي المصري، طارق عامر، الذي يتولى مهام منصبه في 27 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أملاً في تجنب زيادات جديدة للأسعار يجلبها كل تخفيض لسعر الجنيه، أو تطلعاً لتحريك الصادرات والواردات بوتيرة أسرع، أو بحثاً عن باعث للثقة يشجع المستثمرين على ضخ أموال جديدة في الاقتصاد المأزوم.
ملامح الأزمة
وحسب تقرير لأصوات مصرية - خدمة وكالة رويترز للشأن المصري "يأتي تعيين المحافظ الجديد خلفاً لهشام رامز الذي تقدم باستقالته في 21 أكتوبر/تشرين الأول، في وقت تتعرض فيه العملة المحلية لضغوط كبيرة، نتيجة لتراجع موارد مصر من النقد الأجنبي، وعلى رأسها السياحة والاستثمارات الأجنبية، عن مستوياتها قبل ثورة يناير، فضلاً عن الارتفاع المتراكم للواردات في مقابل الصادرات".
وساهمت بعض المشروعات التي تبنتها الدولة كذلك في زيادة الطلب على العملة الصعبة، حيث قال هشام رامز في حوار تلفزيوني أذيع على قناة "القاهرة والناس"، إن "قناة السويس وإنشاء محطات كهرباء جديدة كلفتنا مليارات الدولارات، وهذا سبب الأزمة التي حدثت في الدولار".
كانت الحكومة قد لجأت إلى البنوك لاستبدال جزء من حصيلة شهادات قناة السويس بدولارات لسداد مستحقات الشركات الأجنبية التي تعاقدت معها لإتمام مشروع توسعة وتعميق قناة السويس خلال عام واحد فقط بدلاً من ثلاث سنوات.
كما تعاقدت الحكومة مع شركات أجنبية، تحصل على مستحقاتها بالدولار، لبناء وتجديد عدد من محطات الكهرباء خلال الشهور الماضية.
ووصلت احتياطيات مصر من النقد الأجنبي في سبتمبر/أيلول الماضي إلى 16.3 مليار دولار. ويغطي هذا المستوى من الاحتياطيات واردات مصر لمدة 2.7 شهر، بحسب تقديرات وكالة موديز الدولية للتصنيف الائتماني، وهو معدل يقل عن الحد الأدنى الآمن الذي حدده صندوق النقد الدولي بثلاثة شهور.
وكانت الاحتياطيات قد بلغت 13.4 مليار دولار في مارس/آذار 2013، في بداية تولي هشام رامز مسؤولية البنك المركزي. وارتفعت قيمتها وانخفضت خلال نحو عامين ونصف متأثرة بالأساس بقيمة وتوقيتات المساعدات الخليجية التي تلقتها مصر في تلك الفترة.
ووصلت لذروة ارتفاعها خلال تلك الفترة في إبريل/نيسان الماضي، عندما بلغت 20.5 مليار دولار، بسبب المساعدات التي حصلت عليها مصر بعد المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ.
ومنحت دول عربية خليجية مصر نحو 35 مليار دولار من المساعدات في شكل شحنات نفطية ومنح نقدية وودائع في المركزي المصري منذ يونيو/حزيران 2013، ومع انخفاض الموارد الدولارية أصبح المركزي أقل قدرة على التدخل للمحافظة على قيمة الجنيه.
دولارات خارج الجهاز المصرفي
ساهمت الضغوط الكبيرة على الجنيه في نشاط السوق السوداء التي يتم فيها تداول العملة الصعبة بأسعار تفوق الأسعار الرسمية التي يحددها البنك المركزي.
وكان الجنيه قد فقد نحو 15% من قيمته منذ ثورة يناير وحتى تولي هشام رامز مسؤولية المركزي، ثم تم تخفيضه عدة مرات خلال فترة رامز، ليفقد 17% إضافية، ليتعدى سعر الدولار في البنوك حالياً 8 جنيهات.
وعززت عوامل إضافية موقف تجار العملة، وقللت من استفادة المركزي من العملة الصعبة التي تدخل إلى البلاد، نتيجة لتسربها خارج الجهاز المصرفي.
ويوضح عبد الفضيل "في ظروف ندرة النقد الأجنبي يلجأ المصدرون ووكالات السفر على سبيل المثال إلى توريد نسبة أقل من الحصيلة الفعلية، لتغطية احتياجاتهم المحلية، والاحتفاظ بالباقي فى الخارج، فيما يسمى بأسلوب Under invoicing".
وفى نفس الوقت تتراجع استفادة الجهاز المصرفي من تحويلات المصريين بالخارج، نتيجة اختطاف جانب من هذه التحويلات من المنبع عبر مندوبين لتجار العملة يحصلون على العملة الصعبة من العاملين في تلك البلاد، ويقوم مندوبون آخرون فى مصر بتوريد مقابلها بالجنيه المصري لأهالي المصريين العاملين بالخارج بأسعار أعلى من السعر الرسمي فى البنوك.
ويؤدي هذا إلى "نشوء مجمع كبير للنقد الأجنبي خارج الجهاز المصرفي يلجأ إليه المستوردون والمستثمرون لتدبير احتياجاتهم. وفي هذا الإطار تنشط مراكز في الأردن ودبي كمحطات هامة فى هذه التعاملات"، كما يقول العضو السابق في مجلس إدارة البنك المركزي.
وتعتبر تحويلات المصريين العاملين بالخارج أحد المصادر الأساسية للنقد الأجنبي في مصر، وبلغت في العام المالي الماضي نحو 19.3 مليار دولار.
القيود على الإيداع النقدي في البنوك
فرض هشام رامز في مطلع العام الجاري حداً أقصى للإيداع النقدي بالدولار في البنوك، عند عشرة آلاف دولار يومياً للأفراد والشركات، وبإجمالي 50 ألف دولار شهرياً، وكان هذا أكثر قراراته إثارة للجدل.
ويحمّل كثير من المستوردين والمصدرين هذا القرار مسؤولية نقص الدولار في السوق في الشهور الأخيرة، وبدأت المطالبات تتزايد بالتراجع عنه مع الإعلان عن محافظ جديد للمركزي.
ويقول خبير مصرفي، فضل عدم نشر اسمه، إن "هذه القيود هي الحل الوحيد للتعامل مع السوق السوداء، ونجحت بالفعل في القضاء عليها لفترة طويلة"، موضحاً أن من يهاجمون هذه الإجراءات من التجار ليس لديهم مانع من شراء الدولار في السوق السوداء لأنهم سيحملون التكلفة للمستهلك في النهاية.
وتوضح سلوى العنتري، مدير عام البحوث بالبنك الأهلي المصري سابقاً، أن القيود على التعامل النقدي معمول بها في كثير من دول العالم، أساساً لمكافحة غسيل الأموال، بما فيها الأموال الناتجة عن التجارة غير المشروعة في العملة.
فلا يجوز أن يقوم الشخص بإيداع مبالغ كبيرة من المال نقداً دون أن يكون قادراً على إثبات مصدرها، بينما تتم المعاملات المالية الكبيرة، سواء بالعملة المحلية أو بالعملات الأجنبية في تلك البلاد، من خلال التحويلات البنكية، تقول العنتري.
اقرأ أيضاً: شركات الصرافة المصرية تخفي تعاملاتها تجنباً لحملات الأمن
يرى الخبير المصرفي أن "هذه الإجراءات يجب أن يتزامن معها قرار بتقليص الواردات، وهي خطوة كان يجب اتخاذها مع بداية الأزمة الاقتصادية منذ 4 سنوات، وقد سعى رامز لتطبيقها مؤخراً لكن جماعات المصالح منعته".
بينما يقول محمد قاسم، رئيس المجلس التصديري للملابس الجاهزة، إن سياسة البنك المركزي في الفترة الماضية وباستخدام هذه القيود لم تنجح في الحفاظ على قيمة الجنيه، كما عرقلت عمل المصدرين والمستوردين. "ما نحتاج إليه في الفترة القادمة هو أن تكون سياسات البنك المركزي واضحة ومعلنة، لأننا كنا نُفاجأ بالقرارات في البرامج التلفزيونية".
تخفيض الجنيه
لا يوجد بين أدوات السياسات النقدية المختلفة ما يجعل المحافظ الجديد يتجنب المضي في طريق سلفه بتخفيض سعر الجنيه، كما ترى إيمان نجم، محللة الاقتصاد الكلي ببنك الاستثمار برايم، معتبرة أن "التحفظ الذي يمكن أن يؤخذ على المحافظ السابق هو طريقته في إدارة العملية، وليس مبدأ التخفيض في حد ذاته".
وقالت إن السماح للجنيه بالهبوط "دفعة واحدة إلى المستويات التي يرى المركزي أنها تمثل قيمته الحقيقية، سيسهم في توفير العملة، حتى وإن تسبب ذلك في صدمة اقتصادية"، موضحة أن التخفيض التدريجي يجعل من يدخرون الدولارات يتمسكون بها أكثر، لأنهم دائماً يتوقعون أن قيمتها ستزيد.
ويقول محمد قاسم إن تحديد القيمة العادلة للجنيه يحتاج لحسابات كثيرة، لكن إحدى وسائل قياسها هو الفرق بين معدل التضخم في مصر وبين البلد الذي ترتبط عملتنا به، "ويدور معدل التضخم في مصر حول الـ10% بينما يصل في الولايات المتحدة إلى 2%، هذا الفارق بين الرقمين يمثل النسبة التي يجب أن يتم تخفيض الجنيه بها سنوياً".
بينما تقول سلوى العنتري إن "كل تجاربنا القريبة والبعيدة تؤكد أن تخفيض قيمة العملة لا يحل المشكلة، ولا يحقق التوازن في سوق الصرف. بينما كانت الفترات القليلة التي حدث بها توازن هي التي شهدت فائضاً في ميزان المدفوعات".
أما في أوقات الأزمات "فيحدث سباق بين البنك المركزي والسوق السوداء على عائدات السياحة وتحويلات العاملين بالخارج بشكل خاص، ويسعى المركزي لجعل السعر الرسمي للدولار مقابل الجنيه جاذباً، ليشجع حائزي الدولارات على إيداعها في البنوك، وهو ما يعني عملياً خفض قيمة الجنيه"، كما توضح العنتري.
ويؤدي هذا الخفض لإعادة التوازن في سوق الصرف لفترة محدودة، لكنه يرفع أسعار السلع المستوردة، والتي تشمل طيفاً واسعاً من السلع، كما يرفع أسعار مستلزمات الإنتاج، كما تقول العنتري لأن "مصر مستورد صاف للغذاء والمنتجات الصناعية ومستلزمات الإنتاج والمنتجات البترولية والآلات والمعدات ووسائل النقل".
ويعد استقرار الأسعار هو الهدف الرئيسي للسياسة النقدية للبنك المركزي، الذي يتقدم على غيره من الأهداف، ويلتزم المركزي، تبعاً للقانون المنظم لعمله، بتحقيق معدلات منخفضة للتضخم في المدى المتوسط تساهم في بناء الثقة وبالتالي خلق بيئة محفزة للاستثمار والنمو.
اقرأ أيضاً:مصر تواجه أزمة الدولار بالقبضة الأمنية
وأضافت العنتري أنه من جهة أخرى "لا توجد لدينا كمية كبيرة من الصادرات عالية التنافسية، التي لا ينقصها سوى خفض قيمة العملة حتى تصبح أكثر جاذبية في الأسواق الدولية، وبالتالي تزيد مما يدخل إلى مصر من عملات أجنبية".
تقليص الاستيراد
تقول سلوى العنتري إن "السياسة النقدية تتعامل مع الأجل القصير"، وبالتالي فإن أقصى ما يستطيعه البنك المركزي أن يحدده للبنوك هو أولويات للقطاعات التي يجب أن تحصل على الدولار قبل غيرها.
"لكن يجب أن يتواكب مع هذا قرار من الدولة بخفض الطلب غير الضروري، والاستغناء عن المنتجات التي يوجد لها بديل محلي، أو تلك التي لا تلبي احتياجات القاعدة العريضة من المصريين لوقف جزء من نزيف العملة الصعبة".
وهو ما أكده الخبير المصرفي، الذي طلب عدم نشر اسمه، قائلاً "لازم نعيش على قدنا"، وأوضح أنه في ظل العجز المزمن في ميزان مصر التجاري، دعا محافظ البنك المركزي المستقيل، هشام رامز، إلى فرض ضرائب على السلع الكمالية، "فتكاتف عليه الوزراء والمستوردون لأنهم لا يريدون قيوداً على الاستيراد. لكن هذا هو الحل الوحيد في الظرف الراهن"
وتستورد مصر من الخارج ثلاثة أضعاف ما تصدره، حيث بلغت وارداتها في العام الماضي 60.8 مليار دولار مقابل صادرات بقيمة 22 مليار.
ويقول عمرو عادلي، الباحث غير المقيم بمركز كارنيغي للشرق الأوسط، إن "البعض يرى أن هناك مخاطر في أن تفرض الحكومة قيوداً على استيراد سلع محددة تستنزف الدولار، ولا تمثل حاجة ماسة للبلاد، على اعتبار أنه يعطي صورة عن الاقتصاد بأنه في أزمة. لكن الواقع يؤكد أنه في أزمة بالفعل".
ويوضح عادلي أن "المركزي طبق سياسات تتيح الدولار للقطاعات الاقتصادية التي اعتبرها تمثل حاجة ماسة للبلاد. لكن رامز أصدر هذه التعليمات بشكل غير مفصل للجهاز المصرفي، وهناك حاجة حالياً لأن تكون السياسة أكثر وضوحاً أمام مجتمع الأعمال، مثل تحديد حصة من العملات الأجنبية لكل قطاع على سبيل المثال".
أما على المدى المتوسط والطويل تحتاج مصر لأن تبدأ "من اليوم" في اتخاذ خطوات تساهم في تغيير بنية الاقتصاد المعتمدة تماماً على الخارج، وتتجه لبنية إنتاجية تلبي جزءاً أساسياً من احتياجات القاعدة العريضة من المواطنين، كما تنتج سلعاً تنافسية للتصدير، كما تقول العنتري. "عندما يكون هيكل إنتاجنا بهذا الشكل، فإن أثر تخفيض سعر العملة يمكن أن يكون إيجابياً".
سعر الفائدة
سعر الفائدة كذلك من الأدوات التي يملكها البنك المركزي لزيادة الطلب على العملة المحلية، لكنه لا يستخدم هذه الأداة، كما تقول العنتري.
"فهو يثبت سعر الفائدة في البنوك لفترات طويلة بينما تكون في حقيقتها سالبة، لأن معدل زيادة أسعار المستهلكين (التضخم) مرتفع عنها، وبالتالي فإن القدرة الشرائية للأموال المدخرة تتآكل مع الوقت".
وكان البنك المركزي قد ثبت أسعار الفائدة على الإيداع والإقراض في أكتوبر عند مستويات 8.75% على الإيداع و9.75% على الإقراض، بينما وصل آخر معدل للتضخم إلى 9.2% في سبتمبر.
ويلجأ البنك المركزي أحياناً لرفع أسعار الفائدة كوسيلة لمواجهة التضخم، كما فعل في يوليو 2014 عندما رفع الفائدة في البنوك لاحتواء الآثار التضخمية لسياسات الدولة في تحرير بعض بنود الدعم في ذلك الوقت. وانتقد صندوق النقد هذه الخطوة معتبراً أنها تقلل من فرص القطاع الخاص في الاقتراض.
وترى العنتري أن "المستثمرين يطالبون بتخفيض الفائدة طوال الوقت لتقليص تكلفة الاقتراض، رغم أن هناك دراسات كثيرة تؤكد أن الفائدة لا تؤثر على الاستثمار في مصر لأن نسبتها من إجمالي تكاليف النشاط ضئيلة، بينما يؤثر رفع الفائدة مباشرة على زيادة الودائع البنكية".
اقرأ أيضاً: هل ينجح محافظ المركزي المصري الجديد بحل أزمة الجنيه؟