تحالف إسلامي ضد الإرهاب؟

19 ديسمبر 2015
+ الخط -
تتوالى المشاريع في المنطقة العربية، ومصيرها محدد سلفاً، إما لأنها تولد ميتة، أو لأنها سُتجهض بسرعة، أحياناً ممن بادروا إليها. ونخص هنا بالذكر مشروعين: القوة العربية المشتركة والتحالف الإسلامي ضد الإرهاب. يتسم كلاهما بصبغة دينية واضحة (فالبعد المذهبي للقوة العربية واضح، لأنها صُممت للتدخل في أقطار عربية لدواعٍ مذهبية بمسوغات سياسية)، على الرغم من الاختلاف في الاسم، وهذا بحد ذاته ينذر بفشلهما.
قبل أن يجف حبر الإعلان غير الرسمي عن فشل القوة العربية المشتركة، طرحت السعودية مشروعاً برّاقاً آخر، لأنه يُعنى بمكافحة الإرهاب، وأوسع، لتعديه الدائرة العربية إلى الدائرة الإسلامية. ويطرح هذا التحالف، بشكل أو بآخر، ازدواجية في العمل مع الائتلاف الدولي ضد داعش ونظيراتها، كون عديد من دوله منخرطة في هذا الائتلاف الدولي.
تحالف إسلامي ضد الإرهاب، تسمية مثيرة للانتباه، فالدول التي بادرت إليه طالما رفضت الربط بين الإسلام والإرهاب، لكنها اليوم تطلق مبادرة تجمع بينهما رسمياً! وهذا ما يطرح إشكالات عدة. أولها أنها تقرّ بوجود ترابط بين الإسلام والإرهاب، معترفة بالطرح السائد في بعض الدول الغربية. ولو فصّلنا الأمر بعض الشيء، لقلنا إن مثل هذا الإقرار يعبّر عن إقرار آخر مضمر إلى حد الآن، هو أن الأنظمة العربية (لأن المبادرة عربية بالأساس) تقول بإسلام (نسخة من الإسلام) أوجدت بيئة متقبلة للتشدد والتطرف. ويكفي تحليل الخطاب الديني للقنوات الدينية وغير الدينية الحكومية في الدول العربية، للتحقق من مسؤولية الأنظمة في إيجاد بيئة مواتية ومتقبلة للتطرف ومناوئة للتسامح. ومن ثم، فالأنظمة القائمة جزء من المشكلة، وليست بالضرورة الحل، فضلاً عن تحركات بعضها المخلة بالاستقرار سياسياً والتكفيرية دينياً. ولسان حال الدول النافذة في هذا التحالف أن الغاية تبرر الوسيلة، فتدخلاتها وصراعاتها المذهبية تجعلها تربط الإسلام بالإرهاب رسمياً. إنه مأزق الصراعات المذهبية الإسلامية البينية الذي بلغ فيه توظيف الدين مستويات غير مسبوقة، منذ سنوات الاستقلال. ومن ثم فإن المنطقة العربية بحاجة إلى مراجعة جذرية لمناهج التعليم الحالية لبناء مواطن متفتح ومتسامح بينياً ومع الآخر، لكن الأنظمة القائمة تعي جيداً أن هذا المشروع الحضاري سيأتي عليها في نهاية المطاف، لأن المواطن الذي لا يقبل أن تتلاعب بعقله الجماعات المتطرفة، لن يقبل ذلك من الأنظمة السياسية، مهما كانت مسوغاتها ومبرراتها.
قراءة سريعة في قائمة الدول المشاركة في هذا التحالف توضح أنه "فسيفساء"، لضمه دولاً
مختلفة التوجهات والمصالح والتموقع من مسألة الإرهاب، بل بعضها غير معني به، كدول أفريقية عديدة يبدو أن غرض إدراجها في القائمة تضخيم هذه القائمة لا أكثر. فضلاً عن التناقضات التي يحملها في طياته، فهناك دول تغذّي جماعات إرهابية وتدعمها بشكل أو بآخر (أيديولوجياً ومالياً وحتى عسكرياً) تقول بمكافحة الإرهاب في الوقت نفسه. ويمكن تصنيف الدول التي وردت في قائمة هذا التحالف في عدة فئات. لكن، نظراً لتداخل مختلف العوامل وتفاعلها، فإن بعضها يمكن أن ينتمي إلى أكثر من فئة، في الوقت نفسه.
فئة الدول النافذة وذات المصالح المحلية و/أو الإقليمية، والتي توظف محاربة الإرهاب لخدمة مآرب مذهبية وسياسية، وهي قوى متدخلة في المنطقة، وسياساتها جزء من المشكلة، وليست بالضرورة جزءاً من الحل، لأن بعض سياستها تغذّي الإرهاب، فضلاً عن انخراطها في صراعات مذهبية، ومن ثم فالتحالف أداة لخدمة مصالحها، وليس بالضرورة للتخلّص من الإرهاب. فئة الدول المنقسمة على نفسها، بسبب الحروب أو الصراعات التي تعرفها، وبالتالي، لا يمكنها تقديم أي خدمة لهذا التحالف، ما عدا شرعنة تدخله في أراضيها، ومنها اليمن وليبيا والصومال. فئة الدول الأفريقية، بما فيما دول مغاربية، مثل موريتانيا، المنخرطة أو غير المنخرطة في محاربة الإرهاب في أفريقيا، والمرتبطة بمصالح غربية فرنسية تحديداً، وبالتالي، فوجودها في هذا التحالف رمزي، لأن الأولوية لتعاونها وتحالفها مع فرنسا، ومنها مالي وتشاد والنيجر ونيجيريا وكوت ديفوار والسنغال والغابون وتوغو وغينيا (الدول الخمس الأخيرة لا تعرف ظاهرة الإرهاب محلياً). فئة الدول المغاربية التي تعرف نشاطاً إرهابياً متفاوت الحدة، وإن كانت تونس أكثر تضرراً من غيرها، والتي ليست لها الإمكانات اللازمة لمواجهته بقوة، وهي تونس وموريتانيا والمغرب الذي ينفرد بإمكاناته وتناغم سياسته مع السياسة السعودية (التدخل في اليمن خصوصاً). فئة دول مهملة الثقل تماماً، مثل جيبوتي وجزر القمر والمالديف وحتى موريتانيا، ودول بعيدة (المالديف وماليزيا) عن المسارح الرئيسية لنشاط الحركات الإرهابية (العراق والشام، اليمن، مصر، ليبيا وتونس ومنطقة الساحل). وهناك فئة أخرى فريدة، تضم فلسطين وحدها. وهذا ما يثير تساؤلات: كيف لها أن تشارك في مثل هذا التحالف في ظل الاحتلال الإسرائيلي؟ وهل استقلالها مسألة ثانوية؟ وماذا عن توظيف الجماعات المتطرفة قضية الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ يبدو أن ضمها إلى هذا التحالف مجرد دلالة على صراع أيديولوجي مع حركة حماس وعلى مساندة حركة فتح على حسابها في صراعهما على بقايا السلطة في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
الملاحظ في قائمة الدول المتحالفة هذه غياب العراق وسورية، على الرغم من أن جزءاً من أرضيهما أقيمت عليه "إمارة" داعش. يمكن تفسير غيابهما بالصراع المذهبي بين السعودية وحلفائها من جهة وبين النظامين العراقي والسوري وإيران وحلفائهم (وتحديداً حزب الله بالنسبة للنظام السوري) من جهة ثانية. مع العلم أن دولاً تنتمي إلى هذا التحالف الإسلامي تشارك في الائتلاف الدولي ضد داعش الذي يشن غارات جوية على مواقعها في العراق وسورية. ويعبّر هذا كله عن الصراعات السياسية والمذهبية التي تعصف بالمنطقة العربية. فما يجمع العراق وسورية واليمن وليبيا هو نشاط إرهابي متفاوت الحدة، وانهيار مؤسسات الدولة، وسيطرة تنظيمات و/أو مليشيات على جزء من أراضيها.
الملاحظ أيضاً غياب الجزائر عن هذا التحالف الإسلامي ضد الإرهاب. وهو في واقع الحال نسخة موسعة للتحالف العربي المتدخل في اليمن، ما يعني أن معارضة الجزائر التدخل في اليمن، ورفضها المشاركة فيه جعلت مسألة عدم انضمامها إلى التحالف الإسلامي مجرد تحصيل حاصل.
فضلاً عن إقراره بالربط بين الإسلام والإرهاب وطبيعته الفسيفسائية وتناقضاته البنيوية (دول تغذي وتدعم جماعات إرهابية بشكل أو بآخر، أيديولوجياً ومالياً وحتى عسكرياً، تقول بمكافحة الإرهاب في الوقت نفسه)، فإن هذا التحالف، ذا الصبغة المذهبية (صراع سني - شيعي)، يتبنى مقاربة دولتية، بينما الفواعل المستهدفة، نظرياً على الأقل، غير دولتية. وتعود هذه المقاربة الدولتية للتعامل مع الجماعات الإرهابية إلى العلاقة الصراعية بين أقطاب هذا التحالف وإيران. إلا أن معظم الجماعات والتنظيمات التي توسم بالإرهابية في العالم العربي سنية. بل إن أكبر جماعتين إرهابيتين في العالم، أي داعش والقاعدة، عربيتان سنيتان. فالقول بضرورة مكافحة كل التنظيمات الإرهابية لا يمكن أن يخفي هذه الحقيقة: هناك خلل في "الإسلام السني" في الراهن، وتحميل إيران وحزب الله تبعات الأمور في سورية والعراق وغيرهما ليس إلا محاولة تبرير للذات. وعليه، تبدو هذه المبادرة وكأنها محاولة لتمرير صراعات سياسية ومذهبية على أنها تندرج ضمن مكافحة الإرهاب (أداة لإدارة الصراعات).