16 نوفمبر 2024
تجويف الدولة اللبنانية
لا يعيش لبنان فقط على وقع الانفجار السوري وتداعياته، لكن هذا البلد الذي طالما وصف اقتصاده بأنه اقتصاد الخدمات وتحويلات مغتربيه يشارك في مجريات الحرب السورية، بعد أن ارتأى أحد الأحزاب أنه من الأفضل له المشاركة فيها، بصرف النظر عن رأي الدولة اللبنانية وبقية الشركاء.
ارتدادات الانفجار السوري هي إضعاف الدولة، وتجويف مؤسساتها، والشروع في تعطيل هذه المؤسسات (مجلس النواب مُمدّد له، ورئاسة الجمهورية شاغرة). لم يسبق لبلد في العالم أن ظل بغير قيادة عليا نحو سنتين غير لبنان، ربما باستثناء الصومال. تكريس الشغور الرئاسي يوفر وضعا مواتياً لحزب الله، كي ينفرد بقراراته، وبغير اعتراض، فالمجلس النيابي شبه مشلول، والحكومة برئاسة تمام سلام محكومةٌ بتوازنات، وإذا اختلت هذه التوازنات (اقرأ: التقاسم والمحاصصة) تنهار الحكومة، وتنهار معها المؤسسة الرسمية الباقية والقائمة على مباشرة السلطة، وهو ما يتحدث به صراحة رئيسها سلام، الباقي في موقعه على كرهٍ منه، وتفادياً للأسوأ الذي قد يحيق لا سمح الله بوطنه وشعبه. لكن، بعيداً عن الحكومة، فإن مظاهر إضعاف الدولة وتيئيس اللبنانيين مستمرة، لتكريس سلطة أمرٍ واقعٍ مسلحٍ تأتمر بأوامر دولة أخرى.
إلى جانب حزب الله المسلح، والذي ينافس الجيش اللبناني في عديده وعتاده، هناك تنظيم مسلح يتبع للحزب، يحمل اسم "سرايا المقاومة"، يضم عناصر من طوائف شتى، بما يضمن اختراقاً سياسياً لهذه الطوائف، وتشكل رديفاً لحزب الله، يظهر عند الحاجة إلى ظهوره.
لا تقوم هذه السرايا منذ ما بعد حرب يوليو/ تموز 2006 بأي نشاط مقاوم للاحتلال الاسرائيلي، لكن اسمها يلبي الحاجة للتمويه عليها. للسرايا مكاتب وفروع في المدن، وبالذات في العاصمة بيروت والمحافظات اللبنانية، ونشأت في العام 1997 برعاية الحزب، بغير أن تحمل نشأتها أي طابع قانوني من أي نوع. وقد انتقدها وزير الداخلية اللبناني، نهاد المشنوق، قبل أيام، ووصفها بأنها "سرايا الفتنة والاحتلال".
تضم هذه السرايا أجنحةً عسكريةً لمحازبين ينتمون لأحزاب موالية لحزب الله، مثل "البعث"
اللبناني والحزب القومي السوري والتيار الوطني الحر والحزب الشيوعي وحزب التوحيد وأحزاب أخرى "قومية ويسارية"، بما يجعلها أقرب إلى مليشيات عسكرية منظمة، تأتمر بأوامر الحزب القائد: حزب الله، وتشكل احتياطاً عسكرياً وأهلياً للحزب، ولبقية الأحزاب التي تدور في فلكه. ويتحدّث مراقبون، نقلا عن مصادر في حزب الله، عن بلوغ عديد السرايا خمسين ألفاً، وأن للسرايا "مهام داخلية"، من دون إيضاح هذه المهام لسرايا تزاحم السلطات الأمنية الشرعية، وتسلب ولايتها الأمنية. وقد بدا، بعد العام 2006، أن صفحة السرايا طويت، لكنها بعثت في العام 2013، بعد اشتباك عناصر لها مع أنصار الشيخ أحمد الأسير في صيدا.
ليس للسرايا قيادة معلنة أو ناطق رسمي، وهذا الغموض المتعمد يعزّز مشاعر الريبة تجاه أهدافها الفعلية ووظيفتها الحقيقية. وتنشر قواتٌ للسرايا في منطقة البقاع شرق البلاد، وعلى الحدود اللبنانية السورية. ويتردد أن السرايا توفر مقاتلين لتعويض حزب الله عن خسائره البشرية في سورية. وبهذا، يتضح أن السرايا هي من إنتاج حزب الله، تحظى برعايته وتمويله وتدريبه عناصرها، وتنفيذ السياسة الداخلية والإقليمية التي يرتئيها الحزب وراعيه الإقليمي، وبطبيعة الحال بعيداً عن إرادة الدولة اللبنانية، جرياً على نهج الحزب في سلب السلطات ولايتها على الأرض والشعب، وتجويف المؤسسات. وهو ما يجعلها أقرب إلى الحشد الشعبي في العراق، حيث صاحب الأمر والنهي، والمرجع السياسي والمالي واحد، ويقبع في طهران.
إلى جانب السرايا، ظهر قبل أسابيع تنظيم جديد يحمل اسم "حماة الديار"، لا يحمل أفراده السلاح، لكن قياداتهم ترتدي بزةً عسكرية وتحمل السلاح! ويقول مؤسسون لهذا التنظيم (منهم رالف شمالي) إنهم يهدفون إلى دعم الجيش اللبناني، وكسر الحواجز بين الطوائف، وإنهم يعملون تحت سقف القانون، وقد حصلوا على ترخيص من وزارة الداخلية. وسرعان ما افتتحوا مكاتب وفروعا لهم في المدن اللبنانية، وبلغ عديدهم نحو أربعة آلاف عنصر. وقد رافق الغموض نشأة هذا التنظيم، ما حمل منتسبين إليه، وبالذات في طرابلس، للانسحاب منه، خشية استخدامهم في صراعات أهليةٍ داخل المدينة. وقد شكّك سياسيون لبنانيون، بينهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ووزير الداخلية السابق مروان شربل، إضافة إلى وزير الداخلية الحالي نهاد المشنوق، في نشوء هذا التنظيم، ودعوا إلى سحب ترخيصه، إذا كان مرخصاً بالفعل. فيما كشفت مواقع إخبارية لبنانية أن العضو السابق في حزب التيار الوطني الحر، رالف شمالي، يملك شركة أمنية خاصة، وقد رغب، كما يبدو، في الاستفادة من خبراته هذه في المجال الأمني، بتشكيل تنظيم ذي صبغة عسكرية. وتتزايد الجهود، في هذه الآونة، لتطويق هذا التنظيم، والحؤول دون نشر مناخٍ يتم فيه التسابق إلى منظماتٍ سياسيةٍ ذات طابع عسكري، وكما كان عليه الحال عشية الحرب اللبنانية الطويلة في 1975، حيث كان يتم تفريخ المنظمات والحركات المسلحة هنا وهناك.
وقد تشكّكت دوائر لبنانية في أن تكون "حماة الديار" نسخة أخرى من "سرايا المقاومة"، ولم
تتأكد هذه التقديرات، علما أنه يسهل لاحقاً جذب مثل هذا التنظيم إلى من يوفّر له الدعم السياسي والمالي والغطاء الإعلامي، وحيث يتخصص حزب الله في هذه المهمة، استناداً إلى تجربته مع تشكيل سرايا المقاومة، وكذلك إلى تجربة الحزب نفسه الذي يتجلى، أكثر فأكثر، رديفاً للحرس الثوري وامتداداً له، وذراعاً عسكرياً وسياسياً ومذهبياً لإيران الخامنئية. ويبقى أن شلل الحياة السياسية والدستورية والفوضى الأمنية هي التي تشجع على ظهور تنظيم كـ "حماة الديار".
ولا يكتمل العرض إلا بالإشارة إلى تهديدات التيار الوطني الحر، بزعامة ميشال عون، بالنزول إلى الشارع، وهي تهديداتٌ تثور بين آونة وأخرى، ويسهُل التذرّع بأية ذريعة من أجل التلويح بالفوضى (تذرّع، أخيراً، برفضه التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي)، والضغط الأمني على الدولة والمجتمع، وكذلك من أجل طمس الحراك الشعبي المدني المستقل سياسياً، وإحلال حراك عونيٍّ بدلاً منه! وحزب الله لا يرى أحداً بين الموارنة في لبنان يصلح لرئاسة الجمهورية سوى ميشال عون، فإما هذا أو الفراغ إلى الأبد. عون سياسي طيّع لتعليمات حزب الله، فإذا ما قُيّض له أن يصعد إلى الرئاسة، فإن حلم الحزب يتحقق بأن يصبح هو مرجعية دائمة ومُلزمة لرئاسة الجمهورية، وذلك باستنساخ التجربة الإيرانية، حيث المرشد هو مرجع رئاسة الجمهورية. في واقع الأمر، هذا هو الهدف الجوهري لحزب الله في لبنان، وهو امتلاك السلطة العليا بصورةٍ مطلقة، ضمن مسعاه إلى تقويض استقلال هذا البلد، وتبديد خصوصيته الاجتماعية والثقافية، وإلحاقه كلياً بالفلك الإيراني، بحيث يتمتع اللبنانيون بحكمٍ ذاتي، تاركين أمر السياسة الخارجية والدفاعية لولي الفقيه، ومن يمثله في لبنان. أما المعترضون فلهم أن يتعرّضوا إلى سلسلةٍ لا تنتهي من الضغوط. وبينما تلقى الزعيم وليد جنبلاط، أخيراً، تهديدات صريحة من "داعش"، فإنه تلقى أيضاً، وبصورة متزامنة، تحذيرات شديدة اللهجة من العميد مصطفى حمدان، قائد الحرس الجمهوري في عهد إميل لحود، وزعيم تنظيم المرابطين حالياً، والمقرّب من نظام بشار الأسد ومن حزب الله.
ارتدادات الانفجار السوري هي إضعاف الدولة، وتجويف مؤسساتها، والشروع في تعطيل هذه المؤسسات (مجلس النواب مُمدّد له، ورئاسة الجمهورية شاغرة). لم يسبق لبلد في العالم أن ظل بغير قيادة عليا نحو سنتين غير لبنان، ربما باستثناء الصومال. تكريس الشغور الرئاسي يوفر وضعا مواتياً لحزب الله، كي ينفرد بقراراته، وبغير اعتراض، فالمجلس النيابي شبه مشلول، والحكومة برئاسة تمام سلام محكومةٌ بتوازنات، وإذا اختلت هذه التوازنات (اقرأ: التقاسم والمحاصصة) تنهار الحكومة، وتنهار معها المؤسسة الرسمية الباقية والقائمة على مباشرة السلطة، وهو ما يتحدث به صراحة رئيسها سلام، الباقي في موقعه على كرهٍ منه، وتفادياً للأسوأ الذي قد يحيق لا سمح الله بوطنه وشعبه. لكن، بعيداً عن الحكومة، فإن مظاهر إضعاف الدولة وتيئيس اللبنانيين مستمرة، لتكريس سلطة أمرٍ واقعٍ مسلحٍ تأتمر بأوامر دولة أخرى.
إلى جانب حزب الله المسلح، والذي ينافس الجيش اللبناني في عديده وعتاده، هناك تنظيم مسلح يتبع للحزب، يحمل اسم "سرايا المقاومة"، يضم عناصر من طوائف شتى، بما يضمن اختراقاً سياسياً لهذه الطوائف، وتشكل رديفاً لحزب الله، يظهر عند الحاجة إلى ظهوره.
لا تقوم هذه السرايا منذ ما بعد حرب يوليو/ تموز 2006 بأي نشاط مقاوم للاحتلال الاسرائيلي، لكن اسمها يلبي الحاجة للتمويه عليها. للسرايا مكاتب وفروع في المدن، وبالذات في العاصمة بيروت والمحافظات اللبنانية، ونشأت في العام 1997 برعاية الحزب، بغير أن تحمل نشأتها أي طابع قانوني من أي نوع. وقد انتقدها وزير الداخلية اللبناني، نهاد المشنوق، قبل أيام، ووصفها بأنها "سرايا الفتنة والاحتلال".
تضم هذه السرايا أجنحةً عسكريةً لمحازبين ينتمون لأحزاب موالية لحزب الله، مثل "البعث"
ليس للسرايا قيادة معلنة أو ناطق رسمي، وهذا الغموض المتعمد يعزّز مشاعر الريبة تجاه أهدافها الفعلية ووظيفتها الحقيقية. وتنشر قواتٌ للسرايا في منطقة البقاع شرق البلاد، وعلى الحدود اللبنانية السورية. ويتردد أن السرايا توفر مقاتلين لتعويض حزب الله عن خسائره البشرية في سورية. وبهذا، يتضح أن السرايا هي من إنتاج حزب الله، تحظى برعايته وتمويله وتدريبه عناصرها، وتنفيذ السياسة الداخلية والإقليمية التي يرتئيها الحزب وراعيه الإقليمي، وبطبيعة الحال بعيداً عن إرادة الدولة اللبنانية، جرياً على نهج الحزب في سلب السلطات ولايتها على الأرض والشعب، وتجويف المؤسسات. وهو ما يجعلها أقرب إلى الحشد الشعبي في العراق، حيث صاحب الأمر والنهي، والمرجع السياسي والمالي واحد، ويقبع في طهران.
إلى جانب السرايا، ظهر قبل أسابيع تنظيم جديد يحمل اسم "حماة الديار"، لا يحمل أفراده السلاح، لكن قياداتهم ترتدي بزةً عسكرية وتحمل السلاح! ويقول مؤسسون لهذا التنظيم (منهم رالف شمالي) إنهم يهدفون إلى دعم الجيش اللبناني، وكسر الحواجز بين الطوائف، وإنهم يعملون تحت سقف القانون، وقد حصلوا على ترخيص من وزارة الداخلية. وسرعان ما افتتحوا مكاتب وفروعا لهم في المدن اللبنانية، وبلغ عديدهم نحو أربعة آلاف عنصر. وقد رافق الغموض نشأة هذا التنظيم، ما حمل منتسبين إليه، وبالذات في طرابلس، للانسحاب منه، خشية استخدامهم في صراعات أهليةٍ داخل المدينة. وقد شكّك سياسيون لبنانيون، بينهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ووزير الداخلية السابق مروان شربل، إضافة إلى وزير الداخلية الحالي نهاد المشنوق، في نشوء هذا التنظيم، ودعوا إلى سحب ترخيصه، إذا كان مرخصاً بالفعل. فيما كشفت مواقع إخبارية لبنانية أن العضو السابق في حزب التيار الوطني الحر، رالف شمالي، يملك شركة أمنية خاصة، وقد رغب، كما يبدو، في الاستفادة من خبراته هذه في المجال الأمني، بتشكيل تنظيم ذي صبغة عسكرية. وتتزايد الجهود، في هذه الآونة، لتطويق هذا التنظيم، والحؤول دون نشر مناخٍ يتم فيه التسابق إلى منظماتٍ سياسيةٍ ذات طابع عسكري، وكما كان عليه الحال عشية الحرب اللبنانية الطويلة في 1975، حيث كان يتم تفريخ المنظمات والحركات المسلحة هنا وهناك.
وقد تشكّكت دوائر لبنانية في أن تكون "حماة الديار" نسخة أخرى من "سرايا المقاومة"، ولم
ولا يكتمل العرض إلا بالإشارة إلى تهديدات التيار الوطني الحر، بزعامة ميشال عون، بالنزول إلى الشارع، وهي تهديداتٌ تثور بين آونة وأخرى، ويسهُل التذرّع بأية ذريعة من أجل التلويح بالفوضى (تذرّع، أخيراً، برفضه التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي)، والضغط الأمني على الدولة والمجتمع، وكذلك من أجل طمس الحراك الشعبي المدني المستقل سياسياً، وإحلال حراك عونيٍّ بدلاً منه! وحزب الله لا يرى أحداً بين الموارنة في لبنان يصلح لرئاسة الجمهورية سوى ميشال عون، فإما هذا أو الفراغ إلى الأبد. عون سياسي طيّع لتعليمات حزب الله، فإذا ما قُيّض له أن يصعد إلى الرئاسة، فإن حلم الحزب يتحقق بأن يصبح هو مرجعية دائمة ومُلزمة لرئاسة الجمهورية، وذلك باستنساخ التجربة الإيرانية، حيث المرشد هو مرجع رئاسة الجمهورية. في واقع الأمر، هذا هو الهدف الجوهري لحزب الله في لبنان، وهو امتلاك السلطة العليا بصورةٍ مطلقة، ضمن مسعاه إلى تقويض استقلال هذا البلد، وتبديد خصوصيته الاجتماعية والثقافية، وإلحاقه كلياً بالفلك الإيراني، بحيث يتمتع اللبنانيون بحكمٍ ذاتي، تاركين أمر السياسة الخارجية والدفاعية لولي الفقيه، ومن يمثله في لبنان. أما المعترضون فلهم أن يتعرّضوا إلى سلسلةٍ لا تنتهي من الضغوط. وبينما تلقى الزعيم وليد جنبلاط، أخيراً، تهديدات صريحة من "داعش"، فإنه تلقى أيضاً، وبصورة متزامنة، تحذيرات شديدة اللهجة من العميد مصطفى حمدان، قائد الحرس الجمهوري في عهد إميل لحود، وزعيم تنظيم المرابطين حالياً، والمقرّب من نظام بشار الأسد ومن حزب الله.