تجربة فاشلة مع الأمل السهل!

04 ابريل 2019
+ الخط -
(1)
كانت أمي وأمهات أصحابي صاحبات شهادات، لكنهن للأسف كنّ أيضاً "صاحبات عَيا"، ولذلك وبرغم انشغالهن بما كان يجري في البلاد من سلق للتعديلات الدستورية، وتطبيخ لقانون الإرهاب بشكل جعل مناخ الإرهاب يخيّم على البلاد، إلا أنهن انشغلن أكثر بحدث جلل وقع في تلك الأيام من شهر مايو 2007، حين سقط رمز من رموزهن الشامخة، هو خبير الأعشاب عادل عبد العال، الذي كان كثير من المصريين والمصريات يعتقدون في نجاعة الحلول التي يقترحها لشفاء أمراضهم المزمنة، ولم يكن أحد من مريديه ومجاذيبه يتوقع أن الدنيا ستنقلب عليه، بعد كل ما لقيه من شهرة وانتشار وتأثير.

منذ أن وضعت وزارة الصحة الرجل في دماغها بعد طول سكوت عنه، وقررت قطع عيشه بعد طناش كامل لإعلاناته وتحركاته، ظلت أمي تحذرني أنني سألقى مصير الشيطان الأخرس، لو سكتّ على ما يتعرض له الرجل من مؤامرة تقسم أنها مدبرة بليل من شركات الأدوية والدكاترة الذين "فضحهم وقفل لهم عياداتهم اللي ما لهاش لازمة"، في حين أقسمت أم "أنتيمي" أن الرجل الصالح وقع ضحية لحلف شيطاني من أعداء الإسلام الكارهين للطب النبوي، وحين قلت لها مفرملاً حماسها إن منتقديه لا يمكن الطعن في إسلامهم لأن خلافهم معه خلاف طبي وليس خلافاً دينياً، ردت باشمئناط: "هو يعني عشان الفلوس على قلبك قد كده ولو عييت هتطير على المستشفيات الغالية، تقوم تستكتر على الغلابة الراجل اللي بيداويهم بأعشاب يقدروا يشتروها" بينما جادلت زوجة جارنا المهندس صابر بحجة دامغة: "طب ليه مامنعوش السفاح بتاع العبارة من السفر ولا شاطرين على اللي ماحيلتوش غير شوية شَمَر ومريميّة وقرفة"، أما "مامة الواد شادي" فقد قالت بهدوء المطلعة على الكواليس: "هو لو كان كذاب أو كان مزوّر المؤهل الطبي بتاعه، كانوا سابوه يشتغل في الإمارات .. أكيد كانوا حبسوه هناك.. وبعدين الراجل بقى له سنين بيطلع في المحور ودريم إشمعنى دلوقتي بقى كخة.. دول عايزين يشغلوا الناس عن خازوق جديد بيترتِّب"، وحين سألتها عن طبيعة الخازوق المنتظر، نظرت لي مستغربة جهلي ثم قالت بذات الهدوء: " وعامل بتفهم في السياسة إزاي؟ هي الناس دي بتغلب".


وهكذا مرت الأيام والأسابيع دون أن تخمد الضجة المثارة حول عادل عبد العال، لتتوالى التنظيرات الأمومية والخالاتية، وتتواصل الاشتباكات الفضائية والصحفية، يتمنى أناس للرجل المحاكمة العاجلة، ويتمنى آخرون أن ينبعث مجدداً من أزمته كطائر الفينيق، ويتبدى للعيان والعيّان أن أزمتنا لم تعد تكمن في ما إذا كان عادل عبد العال مدلكاً أم صاحب رسالة، أزمتنا الحقيقية أننا نؤمن بأننا علّمنا الطب للعالم، لكننا نرفض أن نصدق أننا أصبحنا ستمائة شعب يتجاور في بلد واحد: شعب يؤمن بالعلاج بالليزر يجاور شعبا يؤمن بالعلاج بالسنامكّي، شعب يقتني أحدث الكتب الأمريكية الصادرة عن طب الأعشاب، يجاور شعباً يكتفي من كل الكتب بكتاب الطب النبوي "لأن فيه الخلاصة وسيبك من نصب الدكاترة"، شعب يصبر على شكّات الإبر الصينية يجاور شعباً يصبر على لسع النحل وأصابع الدجالين الوسطى، شعب يؤمن بالطب التكميلي وشعب يؤمن بالتكميلي فقط متمنياً أن يكمل لآخر الشهر على خير، شعب يعالج نفسه بالقرآن الكريم يجاور شعبا يعالج نفسه بزيت "شجرة العدرا"، شعب يجادل في دقة مصطلح الطب البديل يجاور شعباً كاد يطلع له ديل من فرط القهر والمذلة، أصبحنا نعيش في مصر شعوباً وقبائل لا تتعارف ولا تعرف عن بعضها البعض شيئاً ولاتتفق جميعها على الإيمان بما يؤمن به العالم من تقدم طبي ومعرفة علمية، وربما كان الشيئ الوحيد الذي لا زلنا نؤمن به جميعاً هو الجنيه، مع أن بيننا من يؤمن به ولم يره.

(2)
لايمكن أن تلوم أحداً لأنه يجري وراء الأمل. لذلك لم أتورط أبداً في لوم أمي وأمهات أصحابي وسائر الذين تعلقوا بما قدمه لهم "نجم نجوم الطب البديل" عادل عبد العال من آمال، ليس لأنني رجل يحب التماس الأعذار للناس، بل لأنني أنا نفسي كنت واحداً ممن ترددوا عليه في يوم من أيام عام 2004، وإن كانت تجربتي مع الأمل السهل الذي يوفره الرجل للناس لم تعمّر طويلاً.

أكون كاذباً إذا قلت لك أنني ترددت على المعالج الشهير، فقط لأرصد ظاهرة اجتماعية كانت قد بدأت تستفحل منذ مطلع الألفية الثانية، أو لأتخذ من طوابير المقبلين على نجمه الصاعد مادة أدرسها خلال كتابة عمل فني، فقد ذهبت إليه كغيري، أبحث عن حل مريح وسهل لتداعيات مشكلة السمنة، وبالمرة ليعالجني بمنهجه "النوراني المعجز" من آثار عسر الهضم والصداع وضعف النظر والإجهاد التي كانت قد بدأت تتمكن مني بسبب استهتاري بأبسط قواعد الصحة والمنطق. كان أغلب رواد الرجل يقولون إنهم ذهبوا إليه بعد أن أصيبوا بالإحباط من الأطباء المعتمدين، ويحكي لك كل منهم قصة تنفع حلقة من برنامج بين الناس، أما أنا فعلى العكس، كنت أدرك تماماً أنني ولا أحد سواي سبب فشلي مع الدكاترة المتخصصين في علاج السمنة وتداعياتها، فكل شيخ منهم له طريقة، وكل طرقهم تتشابه في كونها تريد إنساناً يجتهد في تنفيذها، لأن استرداد الصحة ليس سهلا كإفسادها، ولأن مشكلة التعب أنه غير مريح، فإذن لا لوم على أذنيّ لو استجابتا لدوي أحب من السحر: "جرّب مش هتخسر حاجة، ده راجل تحفة، الراجل ربنا مِبارك فيه ـ أرجو ملاحظة الكسرة تحت الميم منعاً للإلتباس ـ خدت إيه من الدكاترة غير أسبوع تخس وخمسة تزيد".

فليكن إذن، تشفعت بوساطة صديقي حسن عدلي الذي أوصلني بمساعدي الرجل، والذين كانوا مجموعة من الشباب يدفعك تهذيبهم الجمّ للقلق من وجود نصبة ما في الأفق، ليتضح في النهاية أن المشكلة ليست في تهذيبهم، بل في قرون إستشعارك التي اتلسعت من النصب فصارت تنفخ في كل الإتجاهات، خلال أيام قلائل حددوا لي موعداً مع الرجل الذي كان قد وصل لتوه من الإمارات حيث يقيم ويعمل، كان لابد أن أذهب للقائه في مزرعة تقع في طريق اسكندرية الصحراوي وتبعد حوالي 45 دقيقة عن القاهرة، ولتسهيل الوصول إليها قال لي مساعدوه إنها مزرعة الشيخ الشعراوي، وعلّموها لي بحصانين ذهبيي اللون يتصدران بابها المطل على الطريق الصحراوي مباشرة.


وصلت في موعدي مُعشّماً نفسي بلقاء الرجل سريعاً والعودة إلى القاهرة قبل حلول الظلام، وعشمي في الواسطة التي جئت بها، خيّل لي أن الرجل سيقابلني لوحدي في أسرع وقت ممكن، لكنني بعد أن دخلت إلى المزرعة الضخمة التي أدركت أن ما قرأته من قبل عن ضخامتها لم يكن مبالغاً، وفور وصولي إلى أول بيوتها الذي فهمت أنه بيت مخصص لضيوف المزرعة، وجدت مايزيد على المائة نسمة، كلهم ينتظرون نداء الأمل الذي قيل أنه سيتأخر شوية، وشوية هذه فتحت إلى ثلاث ساعات داخل صالة البيت قضيتها أنا وإخواني من منتظري الأمل دون أن يزهق أحد منا أو حتى يتذمر، وهو ما ينبهك إلى ألا تستهين بقوة الأمل أبداً، فلو انتظر هؤلاء نصف هذا الوقت في عيادة طبيب شهير لكسّروها على دماغ تومرجيته.

طيلة وقت الانتظار، ظل شباب غير مخلّدين يطوفون علينا بأكواب من عرقسوس وتمر وخرّوب وكركديه، دفعتني روح الغتاتة للسؤال عما إذا كان هناك سوبيا أيضاً، وابتسامة الاعتذار المهذبة منعتني من طلب حلبة حصى، وبعد طول تطواف بأكواب المشاريب، بدأ الشباب الخلوق في توزيع استمارات علينا، طالبين من كل من استلم استمارة أن يكتب فيها معلومات عن طوله ووزنه وسنه ومشاكله الصحية، وما تعود أن يأكله طيلة اليوم. ملأت استمارتي وأنا أغالب رغبتي في الضحك لأن قراءة طقوسي في الأكل، أمر يجب أن يدفع أي طبيب محترم للبصق عليّ وطردي من حضرته طالبا أن أعود إليه عندما أتعلم ألف باء صحة، ملأت استمارتي وسلمتها، وقررت تضييع وقتي بمراقبة من حولي، مسترقاً نظرات خاطفة إلى موبايلات الرجال ومجوهرات النساء، التي لم توحِ لي أن أحداً منهم يعاني من ضيق ذات يد يمنعه من السفر للعلاج في بلاد برّه، لكن تجهم الوجوه وإنحناء الأجساد وتكدر المزاج الذي يعم الجميع، أوحى لي ببلاوي مكلكعة تنتظر الإنفجار بين يدي مبعوث الأمل.

بعد أن فقدت النظرات الخاطفة جدواها، اصطدمت أول محاولة لإمعان النظر بعيون قرفانة تقول لمن حولها: "يا خناق"، فخرجت من المضيفة الخانقة لأشم الهواء الطلق، قبل أن يحيل الظلام، مجيلاً النظر في أنحاء المزرعة الخلابة، ومترحماً على الشيخ الشعراوي الذي لا يملك الآن أحدٌ سوى الله أن يحاسبه على كل هذا العز، من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟

(3)
أدركت أن مزرعة الشيخ الشعراوي أضخم مما بدا لي في البداية، حين قال لي شاب من المهذبين الطوافين بالأكواب، إن تلك القبة الذهبية التي تلوح عن بعد، والبيت الذي يبدو بعدها بكثير، يدخلان أيضاً ضمن نطاق المزرعة، قال الشاب الذي كان قد خرج ليتخفف من عناء الإبتسام إن الدكتور عادل اشترى المزرعة من ورثة الشيخ ليس من قلة المزارع الضخمة في مصر، بل لحبه في بركة الشيخ الشعراوي رحمه الله.

يحكي الشاب بفخر كيف حرص الشيخ على تحقيق الاكتفاء الذاتي داخل المزرعة بحيث تضم كل مايحتاج إليه الإنسان للحياة من قمح وذرة وخضروات وفواكه وماشية تزوّد المزرعة باللحوم والألبان والأجبان، وما كان ينقص المزرعة أضافه فيما بعد الدكتور عادل الذي زرع بها عدداً كبيراً من الأعشاب النادرة والنباتات الطبية التي توفر أجواء مصر وتربتها مناخاً صالحاً لزراعتها، وهو ما لا يهتم به الكثيرون للأسف.

بعد صلاة المغرب حضر أخيراً وبعد طول انتظار، الرجل الذي سيزيل عنا شحومنا ويزيح آلامنا، نَطَر الناس أنفسهم من على الكراسي تحفزاً، وانشقت الوجوه الضجرة عن ابتسامات عريضة، وإشرأبت الأعناق القافشة متطلعة إلى حلم الشفاء العاجل. شهادة لله: الرجل موهوب في التعامل مع الجماهير المجهدة، له ابتسامة تشعرك أن نصر الله قريب، يسلم على الرجال بحفاوة ناظراً مباشرة في أعينهم ولا أجدع سياسي محترف، يعني، قبل أن يجلس على كرسيه ويفتح فمه بنصيحة علاجية، كان الرجل قد جنّدنا جميعاً في حزب الطب البديل، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وتحدث في الدين زمناً، وقبل أن يتمكن الملل ثانية من الحضور، قام بنقل الحديث ببراعة إلى أحدث الإكتشافات الطبية فامتلك أسماع الناس مجدداً، وللحق لم أشعر أنه يبالغ أو يتصنع في كلامه الديني، ربما من فرط بساطة مايقوله، كان كلاماً عادياً يمكن أن تسمعه من مشاهد جيد لقناة (إقرأ) أو إذاعة القرآن الكريم، لكن الرجل كان للحق ماهراً في المزج بين معلوماته الطبية ومحفوظاته من التراث.


حتى لو كنت مثلي صاحب روح نزقة، لم تكن ستجد بسهولة مأخذاً على الرجل، فما ظل يقوله من أحاديث منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أصبح من مبادئ الصحة العامة في العالم كله: "اغسل يديك قبل الأكل وبعده، ثلث لأكلك وثلث لشربك وثلث لنفسك، نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع، لا ينامن أحدكم حتى يعرض نفسه على الخلاء". كلام جميل، حفظناه في صغرنا، وأضعناه مع ما أضعنا من محفوظات الطفولة وقيمها، تفكّر مع نفسك في كلام الرجل عن الطريقة المثلى لتعامل كل منا مع طعامه فتجده محقاً فيما يقوله، يعني، لو توقفنا عن الحياة كخراتيت لما شكونا أبداً من نتائج توقعنا لرفض جسد بشري أن نعامله كجسد خرتيت، لكن الرجل دخل بعدها في التفاصيل، فبدأت في التشوّش والارتباك، خصوصاً حين أخذ يحذر تحذيراً قاطعاً من الألبان ومنتجاتها، ويعتبر الامتناع عنها سبباً من أسباب الصحة.

نصيحة أخرى أقلقتني تشير إلى وجوب أكل الفاكهة قبل الوجبة الرئيسية تطبيقاً لقوله تعالى في الآية الكريمة: "وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون"، والتي قدمت الفاكهة على اللحوم. ياسلام! تذكرت نظرية الطبيب الأمريكي الشهير أتكينز في كون أهم أسباب السمنة يكمن في المزج بين البروتينات والكربوهيدرات الموجودة في سكر الفاكهة، ثم تساءلت: لماذا نُحمّل كتاب الله ما لا يحتمل، يعني لو أراد الله أن يأمرنا بنظام معين للأكل لكان قد فعل جل وعلا، فلماذا نتخذ من نعيم أهل الجنة الذين "لا يُصدعون عنها ولاينزفون" نظاماً غذائياً قد تكذبه حقائق العلم. رفعت يدي لطرح وجهة نظري على الرجل، لكن الجالسين في الصفوف الأمامية نالوا الأسبقية في الحديث، وما إن نالوه حتى أصبح من الصعب أن يطرح مثلي تساؤلاته، ماسورة أمراض وانفتحت يا عيني: سكر وضغط وقولون والتهاب مفاصل والتهاب كبدي والتهاب بواسير وماشئت من إلخ إلخ.

لم أسمع الرجل ولو لمرة يعتذر عن إبداء الرأي في حالة سمعها، دائماً على وجهه الإبتسامة المطمئنة، ودائماً ينتقد الطب التقليدي ويعد ببرنامج علاجي يحل المشكلة. كان يطلب أحياناً إرفاق الملف الطبي للسائل مع الاستمارة التي ملأها، لكنه لم يقل ولو لمرة في تلك الجلسة الطويلة، ما قاله بعد سنوات بعد الضغط الإعلامي العنيف: "أنا لست طبيبا ولا أعالج أحداً بل أنا أعمل مكملا للأطباء"، وعندما شاهدته يقول ذلك، فقدت تعاطفي معه واحترامي له، لأنني لم أكن أحب أن أرى رجلاً صليت خلفه العشاء يكذب.

(4)
كان لابد أن يخفت حماسي لمناقشة الرجل في آرائه الطبية والغذائية، عقب استماعي إلى الحالات المأساوية التي انهالت يومها على الرجل، والتي كانت أقسى إدانة شهدتها في حياتي لواقع الطب في مصر، أخذت أستمع حزيناً إلى كرب الحاضرين وهم يشكون جشع المستشفيات وتضارب تشخيصات الأطباء وعدم دقة التحاليل ومهازل التمريض ولوعة الإهمال الضارب أطنابه في البلاد والعباد، يحتويهم الرجل بابتسامته المطمئنة الثابتة، ويقدم لهم حلاً يبدو في متناول أيديهم، حلاً لن يبيّعهم الذي وراءهم والذي قدّامهم، فلاتستغرب إذن كيف تحول إلى أسطورة، ولا لماذا باع كتابه مئات الآلاف من النسخ، ولا كيف نافس نانسي عجرم في عدد جماهير ندواته، من حقك أن تستغرب بالطبع، لكن من واجبك قبل استنكار المر أن تلعن الذي أمر منه.

تحول الرجل إلى أسطورة، لأنه في ظني لم يتاجر بآلام الناس، على الأقل هذا مارأيته بنفسي، فعندما ذهبت إليه لم يكن يعرف من أنا ولا ما هي مهنتي، خاصة أنني كنت وقتها قد تركت العمل بالصحافة، ولم أكن حتى أظهر كثيراً في برامج التلفزيون لأتحدث عن أفلامي، وكنت قد قد حرصت على أن أطلب من صديقي حسن، الذي أوصلني إلى مساعديه ألا يخبرهم بمهنتي لأرى كيف يعامل الرجل جميع المترددين عليه، وبعيداً عما يمكن أن يكون قد دار في مناسبات أخرى مع آخرين غيري، فما أشهد به هو أن الرجل لم يأخذ مني ولا ممن كان معي يومها مليماً، وقد حرصت على سؤال أكثر من شخص عن تلك النقطة، لأتأكد هل كان ضيق مساعديه المهذبين من سؤالي عن المقابل المادي أمراً يخصني لوحدي، أم أنه سرى على الجميع، فأكدوا لي أنهم واجهوا نفس الضيق من مساعديه حين سألوهم عن المقابل المادي، وهو ما اعتبره بعض أصدقائي المتشائمين فيما بعد جزءاً من خطة معقدة لم أحضر بقيتها.

في نهاية حديثه الطويل قال عادل عبد العال إن الإستمارات التي ملأناها سترسل مرفقة بالملفات الطبية إلى عجمان، حيث مقر مركزه الطبي لتُعرض على أطباء يضعون لكل شخص نظاماً غذائياً وعلاجياً بالأعشاب يتناسب مع حالته وفقا لبيانات استمارته، على أن يتم إستكمال المعلومات تليفونيا عند الضرورة، وغادرت المكان وأنا متأكد أنني لم أكسب سوى معلومات صحية مفيدة، ورؤية مزرعة الشيخ الشعراوي لأول وآخر مرة، لكنني بعد أسبوعين تلقيت مكالمة مهذبة تطلب تحديد موعد ومكان لاستلام برنامجي الغذائي الذي وصل من الإمارات مع عدة علب وأكياس لأعشاب تستخدم مع البرنامج، وعندما سألت المهذب الذي سلمنيها عن المقابل المادي، اعتبر سؤالي كأنه شتيمة، وتركني ومضى، ولا أدري هل حدث ذلك مع كل رواد الرجل أم لا، لكنني أتحدث عما شهدته بنفسي، والله أعلم.

وقبل أن تحسدني على ما نابني من علاج مجاني، يهمني أن تعرف أنني لم أستفد شيئا من الأعشاب أو البرنامج، لأنني اكتشفت أن الرجل لايقدم حلاً سهلاً، تماماً كغيره من الأطباء، فقد كان لا بد في أول أسبوع أن أتناول قبل كل وجبة كبرت أو صغرت بربع ساعة: كوبي ماء فاترين ثم ثمرتي خيار ثم كوب ماء مغلي بعد أن أذيب فيه "باكيت" مملوء بخليط من المريمية والزعتر والمليسيا ثم أحليه بمعلقة سكر فاكهة، ثم أقوم بعد ذلك بإخراج قلب حبة ليمون في كوب، ثم أرش بعض الكمون وأضيف كوب ماء دافئ أضع عليه ملعقة عسل، ثم أشرب بعدها مباشرة كوباً من شاي الأعشاب، كل ذلك قبل أن أضع في فمي أي لقمة، وهو ما دفعني بعد ممارسة هذه الطقوس المعقدة ليومين مع كل وجبة أتناولها، إلى أن أكره منظر الأكل من أساسه، وأغالب الترجيع حتى لو كنت على وشك مصافحة معشوقي: البفتيك، أو التهام معشوقتي: المكرونة بالباشميل، لتجبرني تلك الطقوس المعقدة على التفكير في منافسة غاندي في صومه الأبدي، ثم تدفعني إلى هجران كل ما أرسله لي عادل عبد العال، بعد أن بدت لي نصائح أطباء التخسيس أسهل وأكثر فاعلية، لو قررت أن أترك الكسل وأدرك أنه يستحيل أن تحتفظ بصحتك إذا كنت مواظباً على تدميرها.

ومع ذلك، خرجت من تجربتي الفاشلة العابرة مع الرجل، بعدة نصائح مهمة بدأت محاولة الالتزام بها: نبذ الفاست فود والكانزات والمعلبات والمغلفات ما استطعت إلى ذلك سبيلا، الأكل كإنسان لا كخرتيت، استخدام الأسنان في المضغ الجيد لا في العياقة، الإكثار من شرب الماء، الابتعاد عن الانتفاخ عدو الصحة الأخطر، محاولة فرد الضهر وشفط البطن كلما تمكنت من ذلك، وكلها كما ترى نصائح لم يكن من فضل للرجل فيها، سوى قدرته الخلابة على مزجها بمختارات من التراث الديني والشعبي، وتوصيلها بأسلوب شديد السلاسة يفتقده كثير من أطبائنا، لأن ذلك ليس تخصصهم ولا ملعبهم، وربما لو كان الرجل قد اكتفى بتقديم نفسه كمعالج غذائي لأراح واستراح، لكنه لم يفعل، فطار طار وارتفع، ثم وقع طريح وسائل الإعلام التي نسيت دورها الجنوني في تلميعه، فتكاثرت عليه السكاكين ولاكت سيرته الألسنة، وبدأ يفقد هدوءه فتكثر أخطاؤه وتظهر تناقضاته ويفقد تعاطف الكثيرين، ورويداً رويداً ستخفت الضجة حوله إلى أن تنتهي بإغلاق ملفه عمداً أو إهمالاً، دون أن يتغير في واقع الحال شيئ: لن يواجه أطباء مصر أنفسهم مواجهة صادقة شجاعة، لن تنشغل الدولة بشيئ أكثر من بيع هيئة التأمين الصحي، وتحويل مصر إلى "سوبر دار فؤاد كلينيك"، ليبقى المصريون محبطين من وضع الطب "التعبان"، وليتواصل جريهم وراء أي نداء جديد للأمل، سواء كان صاحبه صينياً خارقاً للعادة، أو عضو مجلس شعب يقهر الجان، أو بدوياً خبيراً في بول الإبل، بل إن الله سيكون رحيماً بمرضانا لو بالت عليهم الإبل فقط.

(5)
كنت قد نشرت نسخة غير منقّحة من السطور السابقة في صحيفة (الدستور) اليومية في مايو 2007، ثم تذكرتها للأسف قبل أيام، حين وجدت صديقاً عزيزاً من أصحاب المؤهلات العليا مثل حالاتي، يقوم "بتشيير" تدوينة متحمسة لعادل عبد العال الذي اتضح أنه لا زال يواصل نشاطه بشكل عادي، وأنه أقنع صديقي بإنجازاته في القضاء على الأمراض الفتاكة، فأصبح صديقي يرى أن طريقته العلاجية "يمكن أن تغنيك عن وجع الطب وصداع الأطباء"، وحين عارضه بعض أصدقائه في ما قاله، وأشاروا إلى ما سبق ذكره من مآخذ على عادل عبد العال ومؤهلاته وأسلوبه وعلى فكرة طب الأعشاب بشكل عام، رد صديقي عليهم بكلام يطابق ما سبق أن قالته من قبل أمي وأمهات أصدقائي، اللواتي حين استفحلت أمراضهن، لم ينجدهن بفضل الله إلا أطباء وصيادلة بحق وحقيق، متّعنا الله وإياكم وإياهن وكل من تحبون بالصحة والعافية، وكفانا جميعاً شر المرض والضجر والأمل السهل.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.