تجارة الوهم في السعودية[1/5]..مياه وزيوت "مباركة" تباع بأسعار خيالية

02 اغسطس 2016
علماء سعوديون يرفضون ممارسات وادعاءات القراءة على المنتجات(Getty)
+ الخط -
لم يجد باعة الخضار، في شرق مدينة حائل (شمال السعودية)، حلا لإنقاذ بضاعتهم من الكساد، سوى رشها بما يسمى بـ"الماء المبارك"، "لماذا لا؟ الماء المقروء عليه، ينفع لكل شيء"، هكذا يقول صالح الحجي، أحد أصحاب بسطات الخضار، الذي دائما ما يشتري هذا الماء الذي نفث فيه أحد الشيوخ، بعد أن قرأ عليه آيات من القرآن الكريم، إذ يؤكد له راق شرعي يبيع هذا الماء، "أنه نافع لكل شيء، بدءا من علاج الأمراض، ومرورا بفك النحس والحسد، وانتهاء بتصريف البضائع الكاسدة".

بحسب الحجي فإن معظم الباعة يفعلون ذلك، إذ يرشون بضائعهم بالماء المقروء عليه، بهدف درء الحسد والعين، وهو ما يؤمن به جاره البائع الجوال أحمد كبير؛ والذي يعتقد أنه: "بفضل هذه المياه المباركة، العمل يسير بشكل جيد".


15 دولارا لكل 10 لترات

عبر جولة في عدد من الأسواق السعودية، وثق معد التحقيق، سعر هذه المياه، والذي يبلغ 55 ريالا (قرابة 15 دولارا) لكل عشرة لترات من الماء، في حين أن سعره الحقيقي، لا يتجاوز 4 ريالات (قرابة دولار واحد)، فيما تنتشر إعلانات بيع هذه المياه في المناطق الشعبية في السعودية، لدرجة أن بيع هذه المياه صار أحد أهم مصادر دخل محلات بيع العطارة، وأخرى تبيع الكتب والأغراض الدينية، كما يتم بيع قارورة الماء التي لا تتجاوز قيمتها أكثر من ريال واحد (قرابة 30 سنتا) بأكثر من 1.5 دولار أميركي، كما أن قارورة الزيت المقروء عليها تباع بأكثر من 22 ريالا سعوديا (6 دولارات)، كما تكلف جلسة القراءة الواحدة على المياه من قبل راق شرعي قرابة 40 ريالا (ما يزيد عن 10 دولارات) وهو ما يؤكده مواطنون سعوديون لـ"العربي الجديد".

ولا يعترف الداعية السعودي الشيخ سعود السهيمي بكل تلك الممارسات، إذ "لم يرد في الشرع ما يؤكد صحة هذا الفعل"، كما يوضح في تصريحات لـ"العربي الجديد"، متابعا القول: "أفتى الشيخ الراحل محمد بن عثيمين في فتوى تداولتها المواقع المتخصصة بأنه لم يرد عن النبي الكريم أنه كان يقرأ في الماء أو الزيت ليدهن به المريض أو يشربه، ولكن مع ذلك نجد من يروج لهذه الأمور، ويستغل حاجة الناس للعلاج ويجني منهم الملايين دون وجه حق".

ولكن على الرغم من ذلك يؤمن سعوديون أن هذه المياه نافعة، وهو ما يثير دهشة أستاذ الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الدكتور عادل العقيل، إذ إنه "لا يوجد سند شرعي أو دليل يؤكد أن الرسول الكريم قرأ على الماء، أو أمر بذلك"، ويضيف: "الناس في الرقية ما بين إفراط وتفريط، وتوسيع هذه الدائرة إلى مثل هذه الجمادات، أو في البيع والشراء أمر غير شرعي، ولا حاجة له".



توسع ظاهرة القراءة على المنتجات

على الرغم من أن كثيرا من رجال الدين السعوديين، أفتوا بأن هذا النوع مما يسمي بـ"المياه المباركة" لا سند شرعي له، إلا أن ظاهرة القراءة على مختلف المواد الاستهلاكية تتوسع، ولم يعد الأمر يقتصر على بيع المياه والزيوت التي يُزعم القراءة عليها بأضعاف قيمتها الأصلية، وبات هناك من يقرأ على النباتات والأعشاب الطبية، وتجاوز الأمر لبيع دهانات وكريمات تجميلية وبعض الأعشاب الطبية مقروء عليها أيضا، "ما يزيد من بركتها العلاجية"، على حد زعم بائعيها، ودخلت محلات العطارة وبيع الأعشاب في منافسة ساخنة مع محلات القراءة، إذ يتنافس الطرفان على بيع المياه والزيوت وحتى العسل المقروء عليه، وفي كل مرة يكتب عبارة (مقري عليه) على العبوة مهما كان محتواها، يتضاعف سعرها عشر مرات على الأقل، ويزيد الطلب عليها لدرجة أن بعض القراء يستأجرون استراحات كبيرة لاستقبال المرضى، ويعترف البائع في أحد محلات العطارة في الدمام، ماجد العميري، بأن أسعارهم مرتفعة، ولكنه يرجع ذلك للوقت الذي بذله الشيخ في قراءة القرآن على المنتجات، مؤكدا على أن الشيخ الذي يتعاملون معه رجل مبارك، وقراءته تشفي الأمراض على حد زعمه.


ويروج العميري بين مرتادي محله، أنه قراءة الشيوخ متفاوتة من حيث درجة قوة قراءتهم على المواد المختلفة، "لهذا نعرض موادنا بأسعار عالية، لأن الشيخ يقضي وقتا أطول في القراءة عليها"، يقول العميري، ويضيف: "هناك من يبيع المياه والزيوت والعزائم عقب شرائها من الشيوخ مباشرة بأسعار أقل، ولكن السعر في محلات العطارة أعلى، إذ يتم بيع قارورة الماء الصغيرة المقرى عليها بنحو 1.5 دولار"، ويضيف :"لا نعتبر ذلك استغلالا، بل هو علاج مثل أي علاج آخر، ولكن الفرق بينه وبين العلاجات الأخرى أنه ديني".

على بعد أمتار قليلة من محل العميري الذي يقع في شارع الملك فهد في الدمام، الذي يعج بمحلات العطارة، يرتب فهد باهبري مجموعة من علب المياه والزيت المعد للبيع بعد أن وصل للتو من مكتب الشيخ، يستلم باهبري دفة الحديث ويقول لـ"العربي الجديد": "نحن لا نوافق على هذه الأسعار المرتفعة، ولكننا مجبرون على ذلك؛ لأنها محددة من الشيخ الذي نتعامل معه"، ويضيف: "بيع الماء المقري عليه جائز، ولا حرج منه مطلقا، ولا يقتصر التداوي بالقرآن على مداواة النفس أو الجن أو السحر، بل يشمل جميع الأمراض حتى الخطير منها"، وهو ما رفضه الدكتور العقيل قائلا "هذا نوع من التسويق المادي، واستغلال حاجة البشر ومرضهم وغرائزهم، الرقية الشرعية لها أصول وقواعد وجوانب خاصة بها ولا يجب أن تتجاوز ذلك، لتصلح تجارة واستثمارا".


بيع الوهم

لم تعد ظاهرة القراءة على المياه والمنتجات المختلفة، تقتصر على المبالغة في الأسعار، أو استغلال المرضى الباحثين عن الشفاء، إذ كشف معد التحقيق عبر حضور جلسة في ما بات يسمى بـ"عيادات القراءة"، في حي الثقبة في الخبر (شرق السعودية)، عن طلب المشرف على تنظيم القراءة أن يخضع الجميع لما يسمى بالقراءة الجماعية، وهي أن يجلس نحو عشرين رجلا في غرفة صغيرة، ونحو هذا العدد من النساء في غرفة مجاورة، ويبدأ الشيخ في القراءة عبر مكبر الصوت لمدة نصف ساعة، ويتقاضى عن كل شخص 130 ريالا (قرابة 35 دولارا) عن الجلسة الواحدة، وخلال الجلسة حاول المشرف عبدالله الحسيني إقناع شخص، تجادل معه حول جدوى هذه الطريقة، بأن الشيخ (تحتفظ العربي الجديد باسمه): "لا يملك الوقت للقراءة على كل شخص على حدة، وأن من يظهر عليه أثر المس أو السحر أو العين خلال الجلسة الجماعية، سيخصص له جلسات خاصة به". ويرتفع سعر هذه الجلسات التي عادة ما تكون لمدة أسبوع على الأقل وفق ما يقرره الشيخ، وكل هذا دون ضمان الشفاء، يضيف الحسيني: "الشفاء من الله، والشيخ مجرد وسيلة قد يجعل الله فيها الشفاء".

ولكن لماذا يقبل السعوديون على مثل هذه العلاجات الوهميّة؟ يجيب عن ذلك استشاري علم الاجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض محمد العتيقي، مؤكدا على أن الرغبة في الشفاء تجعل المريض يبحث عن أي علاج حتى ولو كانت نسبة نجاحه ضعيفة جدا، وهو ما يستغله باعة الوهم، ويقول لـ"العربي الجديد": "كثرة الأمراض المستعصية، تجعل البعض يقع فريسة لتجارة الوهم، والعلاج بالرقية الشعبية غير الصحيحة"، ويشدد العتيقي على أن ما يحدث في أغلب عيادات القراءة هو كذب وسرقة لأموال الناس، ويضيف: "هناك من يزعم أنه يعالج كل الأمراض دون استثناء، وللأسف هناك من يصدق ذلك وينخدع به، ويدفعون مبالغ طائلة تصل لأكثر من 10 آلاف ريال على مياه مقروء عليها، وعسل وأمور أخرى لا تكلف أسعارها الحقيقية، 5% من هذا الرقم، ولكن هؤلاء الدجالون يستغلون حاجة الناس للعلاج، ليبيعوا لهم الوهم، فهم يتاجرون بأمراضهم".

ويتفق معه استشاري الطب النفسي في مستشفى الملك خالد الجامعي تركي السليس، واصفا ما يحدث بأنه: "تلاعب بالمرضى، وخداع صريح لهم"، مطالبا الجهات ذات العلاقة بالتدخل، وإيقاف ذلك، ويقول لـ"العربي الجديد": "هؤلاء يتاجرون بالدين، مستغلين رغبة المرضى في الشفاء بعد أن أعياهم المرض"، ويتابع: "لا بد أن يكون هناك جهات تراقب من يقومون بالقراءة وتقديم جلسات من هذا النوع، خاصة وأن بعضهم تورط في جرائم نصب واحتيال وحتى تحرش بالنساء".

اتهامات الدكتور السليس ليست من فراغ، إذ تم تسجيل نحو 520 حالة تحرش في الأعوام الخمسة الماضية اتُهم فيه عدد من مدعي الرقية الشرعية.


غياب التشريعات

يستغل تجار الوهم حاجة الناس للعلاج، ولكنهم أيضا يستغلون غياب الجهات الرسمية لمراقبتهم، فالمتحدث الرسمي باسم وزارة التجارة، تركي الطعيمي، يؤكد على أن مسؤولية متابعة هؤلاء لا تندرج ضمن مهامهم، وأنها مسؤولية الشؤون الإسلامية، والأخيرة ترفض هذه المسؤولية، وتؤكد على أن لا علاقة لها بذلك، ويؤكد متحدث باسم وزارة العدل، فهد البكران، لـ"العربي الجديد "، على أن الوزارة لا تستقبل دعاوى ضد من يبلغون عن بيع منتجات من نوع المياه المقري عليها، وأن الجهة الأولى هي الشرطة، فيما أكدت مصادر أمنية لـ"العربي الجديد"، على أن أحدا لم يتقدم بمثل هذا النوع من الشكاوى، ولكن في حال تقدم أحد بشكوى فإنه: "سيتم التعامل معها وفق قانون الاحتيال، والتلاعب"، وأضاف المصدر الذي تحفظ على ذكر اسمه: "من الصعب إثبات ذلك، لأنه لا يوجد توصيف محدد لمثل هذا النوع من التهم"، وهو ما شجع محالا لبيع التسجيلات الصوتية من أجل دخول هذا السوق ونيل حصة فيه.
دلالات