في مقدمة كتاب قديم، صدر في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، بعنوان "المادية التاريخية" وهو واحد من الكتب العلامات في تاريخ اليسار السوري، إذ قدّم معرفة موسوعية بالتفسير المادي للتاريخ من وجهة نظر الماركسية السوفييتية، كتبت دار النشر السورية، "دار الجماهير" (وهي دار تولت نشر الكتب الماركسية في نهاية السبعينيات من القرن العشرين) في مطلع الكتاب ما يلي: "لقد التهبت على مدى التاريخ ثورات لا تحصى، ولكن هذه الثورات لم تنته دائماً إلى النصر، بل قلَّ أن انتهت إلى النصر".
مضى على وجود هذا الكتاب في مكتبتي أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وقد نسيت أنني قرأت هذا التقديم من قبل، وفوجئت قبل أيام به وأنا أتصفح الكتاب. هكذا إذن؟ فقد نبهتنا الدار المحترمة إلى تلك الحقيقة التي يرغب البشر في حذفها، أو تغييبها من أذهانهم، حين ينتفضون أو يثورون على الاستبداد، أو الاستغلال، أو الجوع والفقر. فيتغافلون عن هذه الحقيقة المروّعة التي تقول إن الثورات قلَّ أن انتصرت في التاريخ، لا ثورة سبارتاكوس، ولا ثورة الزنج، ولا الثورة في المكسيك، ولا الثورات العربية.
وقد وُئدت كثير من الثورات بالقوة، كثورة العبيد في روما، أو ثورة الزنج في العراق. ومما يذكره التاريخ أن الحكومة الفرنسية وقّعت معاهدة ذل مع حكومة بسمارك للمساعدة في هزيمة ثوار كومونة باريس عام 1871. وقد ارتكب الجيش الفرنسي مجزرة ضد الكومونة، وقتل قرابة عشرين ألفاً من الثائرين في المدينة، خلال أسبوع واحد.
وفضلاً عن هذا، فإن الثورات التي يذكر المؤرخون أنها انتصرت، كالثورة الفرنسية، قد سُرقت بعد نجاحها بزمن قصير، ويوضع نابليون بونابرت مثالاً على العسكري الذي يسرق الثورة، ويحوّل نفسه إلى إمبراطور مستبد، ويمنع تحقق الأهداف التي ثار الناس من أجلها. ولم تستمر ثورة أكتوبر في روسيا سوى بضع سنوات، ونموذج ستالين يكفي للقول بأن الثورة لم تتحقق، وأن أهدافها ظلّت في الخيال وحده، بل إن سقوط الاتحاد السوفييتي يمثل الذروة التي يثبت من خلالها أولئك الذي يرددون أن الثورات لا تنتصر هذه النظريةَ.
غير أن لصوص الثورات ليسوا هم السبب الوحيد في فشلها، وربما يكون عصرنا الحاضر أكثر العصور قوة في الإشارة إلى تضافر كثير من القوى لتأديب أولئك الذين ينسون الملاحظات المنبهة: "لقد قلنا لكم". ألم تسمعوا هذه الجملة كثيراً في السنوات الماضية؟
وفي عصرنا تتولى قوتان كبيرتان من أعتى القوى وأكثرها توحّشاً مهمة تأديب العالم كلّه على نسيان الدروس. ومن الواضح لمن يتتبع سلوك هاتين القوتين في العالم اليوم، أي أميركا وروسيا، أنه على الرغم من أن الثورات لم تنتصر، فهما مستعدتان لتوقيع أكبر العقوبات على من قاموا بها بسبب ارتكابهم للمخالفة والقيام بها ونسيان الدروس السابقة. والتأديب درس لاحق يقدّم بأعلى الأثمان لمن يجرّب السير في طريق باتت مآلاتها معروفة، يزداد مستوى العنف فيها بقدر حجم تجاهل "الاستنتاجات النظرية".