بَوحُ الجدران

15 فبراير 2015
+ الخط -
كلّما مررت بحائط جميل أتعمّد التقاط صورة له، وصورة أخرى لي معه. يدفعني ذلك إلى أن أتساءل: لماذا يُنزل البشر سخطهم على الجدران، حين يسبّون شخصاً ما بشكل قاسٍ ومهين ينعتونه بـ"الحيط"..، وحين يستفزّهم غباء شخص ما يصفونه بـ"الحيط"، كما يقرنون الجدار باللوح! لكن الفرق شاسع.

اللوح مادّة واحدة مصقولة، بينما الجدار هو امتزاج الحجر بالطوب والمياه والكلس بالحشرات التي تسكنه، وعوامل الطبيعة من مطر وهواء وشمس ورطوبة وغيرها. يتلقى اللوح مرور الوقت بسلبية وينتحى إلى الزوال، بينما الجدار يتفاعل معه، يشيخ نعم، لكنّه يكتسب ملامح هذا الزمن ورائحته وذاكرته.

إن وُصفتُ بجدار جميل تخرج من شقوقه نباتات الحبق والطيّون، وترتاح في ظلّه الفراشات، لن أشعر إلا بالإطراء.

بعيداً عن جدران العنصرية والأسر، يمكن للجدار أن يكون قيمةً جمالية، ومرآة إنسانية. هدم جدار برلين وبناء السدّ العالي المصري مشهدان إنسانيان عظيمان، ومفصلان تاريخيان.
كما أنّ للجدار مكانته التاريخية في الفنون والعلوم. لقد كان الكتاب الذي حفظ وثائق ثمينة عبر العصور، وأصبح وسيلة نقل أفكار الناس، حين أقفلت في وجوههم منابر التعبير، وحين كُتمت الحريات، وجد المقموعون في الكتابة على الجدران ملاذهم الوحيد.

وحين، بداية القرن الواحد والعشرين، انتشر الفيسبوك، وأفرد لكلّ مشترك حائطاً يسطّر عليه أفكاره وتعليقاته، ويفرد له المجال للكتابة على جدران الآخرين والتعليق على ما كتبوه على جدرانهم أيضاً، توّج الجدار مسيرته الشاقّة وصار مُقدَّرًا عالميًا ومقدّسًا افتراضيًا.

كما شهد القرن 21 ازدهاراً غير مسبوق في فنّ الجداريات، الذي جنح نحو احترافٍ ومهنيةٍ نالتا التقدير. لطالما حمتنا الجدران، من العداء والغزوات، من القيظ والأمطار والعواصف وانزلاقات التربة، لكنّنا في المقابل لم نَفِها حقّها. حقّها في أن تكون جميلة ونظيفة، وأن نحفظ ذكراها في وجداننا، وأن نستبعدها من لائحة الشتائم التي نتراشق بها بعضنا بعضاً.

كنا، أطفالاً، نصرّ على الكتابة والرسم على أيّ جدار نراه مناسباً. جدران المنزل أوّلاً، وجدران المدرسة وجدران الطرق... وكنّا نُعَاقَب بالضرب، لأنّنا نلطّخ البيت ونشوّه الشارع. لكن لم يحاول أحد أن يفهم فجيعتنا بمحو لوحاتنا العظيمة تلك.

أعرف جارين على غير وفاق قرّرا بناء جدار يفصل حديقتيهما. وإذ لم يجدا الكثير من الطوب راحا يرصفان أصص الزهور والجرار الفخارية... وقد انتهيا إلى نتيجة مذهلة، إذ بدا الجدار الفاصل ذاك حديقة بذاته، ما أدّى إلى صفاء ذهنيهما وقلبيهما وإلى مصالحة دائمة ومستقرّة.
في تاريخ كلّ منا جدار ما، نمرّ به عاماً بعد آخر ولا نلحظ كم تغيّر، لانشغالنا بتغيّراتنا نحن.
نادرة هي المدن التي لا تتغيّر، أو تقاوم التغيير، لا تعرف أنّها أثناء مقاومتها تبذل جهداً يجعلها تشيخ وهي واقفة، كذلك الجدران.

في كلّ بلدة ومدينة يوجد جدار لم يتغيّر، يتحوّل مثلاً في محيطه.
يُقال إنّ الجدار الذي يسند مدخل حيّ جدّتي لا يزال حيث هو وكما هو.

وحدي أرى فيه التغييرات، أرى كم هرم، وكم ثقلاً فوق حجارته، وكم موسم أمطار فاته وآخر باركه، وكم صفعة شمس تلقّى، وكم حلزوناً لاذ به وعنكبوتاً فرّت منه...

وعند ذلك الحائط، أرى تلك الطفلة. كان يُطلب منها حين تشاكس أن ترفع يديها عليه وألا تلتفت، فكانت تتسلّى بخربشات تخطّها بالأحجار الكلسية. رسمت كلّ ما يحلم به الأطفال، وقد كافأها الحائط بمنحها كنزاً، إذ صارت رسّامة مبدعة.

عاماً بعد آخر بقيت الفتاة تتفقّد الحائط، وتأخذ من بين شقوقه قواقع الحلازين وخيوط العناكب والحصوات المتآكلة لتستلهم رسومات جديدة، تؤكد أنّ جدراناً كثيرة قد تفتح أمامنا الطريق إلى أنفسنا.
المساهمون