بيوي كاساريس.. إقامة في الفانتازيا

22 نوفمبر 2014
(تصوير: سوفي باسول)
+ الخط -

مئة عام مرّت على ولادة الروائي والقاص الأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس (1914 ـ 1999) في بوينُس آيرس. كاتب من جيل الرواد في بلده، مرّت مسيرته بلا ضجيج تحت سماءٍ مُرصّعة بالنجوم. كان يرى نفسه مسافراً إلى الماضي كفارسٍ هرِم على ظهر حصان عجوزٍ، ويعود دوماً إلى طفولته التي أغوتها مبكّراً قصص المغامرات والحكايات الغامضة؛ قصصٌ أبهرته وخطّتْ على حائط خياله إشارة، كانت الشرارة الأولى للكتابة.

منذ سن المراهقة، ولع بيوي كاساريس بالقراءة، وشعر أنذاك بأنّ يداً خفيّة تسحبه من داخله نحو عالم الأدب. على أبواب المرحلة الجامعية، أصرّ والده على أنّ دراسة الحقوق ستكون الخيار الأمثل له. لكنّ أمّه، مارتا كاساريس، ستقصد الكاتبة البارزة آنذاك، فيكتوريا أوكامبو، لتطلب منها أن تُقدّم ابنها إلى أحد الكتّاب كي يقيّم نصوصه. وفي نهاية 1931، دعته أوكامبو إلى حفلة في بيتها لتعرّفه إلى الشخص المطلوب، وهو البيت نفسه الذي مرّ به، في فترات مختلفة، طاغور وكامو وسان إكزوبيري ونيرودا.

ذلك الشخص كان الشاعر خورخي لويس بورخيس. منذ ذلك الوقت، سيغدو الفتى بيوي كاساريس مُقرّباً من المعلّم، وستجمعهما في ما بعد صداقة حميمة أتتْ بسبعة أعمال مشتركة، منها "ستّ معضلات من أجل دونْ إيسيدرو بارودي" (1942)، و"نموذج للموت" (1946)، و"كتاب الفردوس والجحيم" (1946)، إضافة إلى مئات الرسائل ومحادثات لا نهاية لها، دوّنها بيوي كاساريس كمنمنماتٍ، لتُنشر بعد وفاته في كتابٍ ضخمٍ حملت عنوانه مفردةٌ وحيدة: "بورخيس".

في عام 1940، تزوّج بيوي كاساريس بسيلبينا أوكامبو، أخت فيكتوريا، الكاتبة أيضاً. وفي السنة ذاتها، نشر الثلاثة، هو وسيلبينا وبورخيس، "أنطولوجيا الأدب الفانتازي"، التي تضم قصصاً قصيرة ومقتطفات من روايات وأعمال مسرحية لأكثر من ستّين كاتباً، من بينهم توماس كارليل، جان كوكتو، هربرت جورج ويلز، ألكسندرا دافيدنييل، جايمس جويس، إدغار ألن بو، فرانز كافكا. وكتب المقدمة بيوي كاساريس. وفي عام 1941، أعاد الثلاثة الكرّة مع "أنطولوجيا الشعر الأرجنتيني".

لم يسعَ بيوي كاساريس وراء شهرةٍ، فهي "مَقامٌ مُزيّف"، ورأى أنه "يُقام للناس الاعتبارُ تقديراً لمعجزاتٍ لم يحقّقوها، إذ إنّ الكُتب تعجّ بالعيوب، حتى وإن حاول الواحد منّا أن يكتب تُحفاً أدبية". انتماؤه إلى عائلة برجوازية سهّل له عُزلة طويلة محاطاً بالكتب.

يتذكّر أن أمّه أحبّت السينما، فأحبّها أيضاً. كما يتذكّر مرآتها العتيقة ثلاثيّة السطوح، المصنوعة في مدينة البندقية، مثبّتة في الحجرة الخاصّة بحفظ وتغيير الملابس؛ تلك المرآة التي أقرّ بفضلها الكبير في تركيب المشاهد البصرية في روايته الغرائبية "اختراع موريل" (1940). كتب عدة سيناريوهات، ونشر مقالات عن السينما في المجلات والدوريات.

بعيداً عن إشكالية الوجود والموت الذي كان يرهبه، بحث في الأدب عن حلول لمسألة أخرى شغلته: القلقُ إزاء الزمن المؤقّت وأُحجية الخلود المعنوي. فالأدب والفن بشكل عام، بحسب منظوره، يمكن أن يكون وسيلة أو بحثاً مُضنياً من أجل بلوغ الأبديّة: "الكتاب هو دائماً ذُريّة كاتبه. فالضياع والسكنى الدائمة في العمل، وكلّ ما يوجد في الإبداع من حزن وجمال وما هو صالح بشكل رهيب، أشياء لا تبدو لي خلوداً محدوداً".

وربما لهذا تزخر أعماله بتأملات تعكس تجربته الخاصة في الأدب وابتكاره أنماطاً جديدة: "على الكاتب إذاً، أن ينظر إلى عمله كمُعضلة ينبغي عليه حلّها؛ من جهة، عبر القوانين العامة والمتّفق عليها مسبقاً، ومن جهة أخرى، من خلال قوانين خاصة عليه أن يكتشفها ويمتثل لها".

منذ الخمسينيات تقريباً، ومع أنه حافظ على خطوط الأدب الفانتازي الأساسيّة التي وسمت أعماله حتى ذلك الوقت، يمكن ملاحظة نُزوعه نحو المحاكاة الساخرة التي تنجرّ إلى الشفهيّة المحلّية والتهكّمية. ففي رواية "حلم الأبطال" (1954)، التي يفضّلها بيوي كاساريس من بين رواياته العشر، ينطلق اللغز من الأحداث التي عاشها البطل إيميليو غاونا، "طوال ثلاثة نهارات وثلاث ليالٍ من كرنفال عام 1927"، فيما يشقّ توظيفُ اللغة المحكية والترويض الماهر للسخرية من أساطير محليّة؛ منظوراً آخر في أسلوبه الروائي. وأيضاً في مجموعته المميّزة "حكاية عجيبة" (1956)، ثمّة بُعد هجائيّ زاخر في ما يخصّ الخرافة والاعتقاد بالمعجزات والهرطقات، كما في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، على سبيل المثال.

كان بيوي كاساريس أيضاً مصوّراً فوتوغرافياً مهووساً إلى حد ما، بيد أنه ابتعد عن التصوير حالما اكتشف أنه لم يكن يفكّر في النصّ الذي يكتبه، إنّما في طريقة تكبير صورة يوم أمس. في رواية "مغامرة مصوّر فوتوغرافيّ في لابلاتا" (1982)، يستمرّ اهتمامه الموضوعاتي بالصورة المكبّرة؛ سرديّة فعّالة، وبصيرة محنّكة متمسّكة بوقائعَ قريبة، وكيفيّة فانتازية تلقي الضوء على مناخ الخوف والانكسار الذي طغى في فترة الدكتاتورية المدنية العسكرية في الأرجنتين (1976 ـ 1983)، كما تُلمّح إلى الاختفاء العنيف والقسري لأشخاص كثيرين في البلد، كإبادة جماعية حقيقيّة، على يد رجالات النظام.

هذه القسمات الفريدة تُلتمس في معظم مجموعاته القصصية التي كتبها في الخمسينات وبعدها، مثل "جانب الظل" (1962) و"بطل النساء" (1978) و"حكايات مُبالغ فيها" (1986) و"دمية روسية" (1991). مجموعات أُهملت لفترة طويلة، مثل سائر أعماله، قبل أن يعاد طبعها ويلتفت القرّاء والنقّاد إلى صاحبها من جديد إثر نيله عام 1990 جائزتين مهمّتين، هما "ثيربانتس للأدب الإسباني"، و"ألفونسو ريّس العالمية للأدب" (المكسيك).

نشير أخيراً إلى أن "منشورات الجمل" أصدرت هذا العام ترجمة عربية لروايته المثيرة "اختراع موريل"، أنجزها أحمد يماني. رواية وصفها بورخيس بالعمل "الكامل" في توطئته المليئة بالمديح والاحتفاء.

دلالات
المساهمون