بيوت دمشق العتيقة: كأنّك تعيش في زجاجة عطر

25 اغسطس 2015
قال عنها نزار قباني: "كأنّك تعيش في زجاجة عطر"(Getty)
+ الخط -
في دمشق القديمة، حيث ينتشر عبق التاريخ، تخفي الأبواب خلفها بيوتاً تعد تحفاً معمارية أصيلة تميز بها البيت الدمشقي عن سائر البيوت، فبات رمزاً معمارياً يحتذى به. بشكل عادي من الخارج تشمخ تلك البيوت، لكنّ روعتها تمتع الناظر عندما يدخلها.

يقول شاعر دمشق وعاشقها، نزار قباني "هل تعرفون ما معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة"؛ فالأزهار والرياحين والنباتات العطرية التي تزرع فيه تجعل جوه معطراً بروائح فواحة، ولأن هذا البيت يوفر كل ما تحتاجه النفس، يقول قباني "هذا البيت استحوذ على كل مشاعري وأفقدني شهية الخروج إلى الزقاق".

على جوانب أزقة ضيقة تتناثر البيوت الدمشقية العريقة ذات الجدران العالية، مسندة أكتافها إلى بعضها بعضاً، ومتلاصقة نتيجة ضيق المساحة؛ بيوت مبنية من الطين والحجارة، وبهندسة بسيطة وتكوين دقيق وتصميم فريد ناتج عن قرون من فن العمارة الإسلامية تنتصب تلك البيوت فاتحة أبوابها الكبيرة للدخول عبر باب صغير في وسطها يسمى الخوخة.

زخارفه متنوعة تعطيه مهابة وعظمة، لتنفذ إلى مدخل ضيق يتسع لشخص واحد، ينفتح هذا المدخل على باحة الدار التي يحسبها الداخل روضة غنّاء لوجود شتى أنواع الأشجار؛ كالنارنج الذي يعطّر الأنفاس من أزهاره والمشمش والكباد والليمون، ودالية عنب تتسلق الجدران إلى السطح، والورود العطرية التي تجعل الجو يبوح بنسائم عطر تسر الداخل؛ كالياسمين الدمشقي الشهير والزنبق والفل.

اقرأ أيضاً: "ملبورن" الأسترالية: أفضل مدينة للعيش في العالم... ودمشق الأسوأ

في وسط تلك الباحة التي تعرف بأرض الديار توجد بركة دائرية أو مضلعة بأضلاع منتظمة تسمى البحرة، خرير مياهها يوحي بأن جعفراً صغيراً ينساب برفق، يتوضع عليها بعض أحواض الزهور والزينة، لها دور مهم في ترطيب الجو؛ إذ تعطي البرودة في فصل الصيف.

أرضية الباحة تكون عادة مبلطة بحجر أسود بازلتي أو رخام ملون ومرتب على الأرض بطريقة فنية تعرف بالمشقف، وحول أرض الديار تتوزع الغرف المصممة بشكل يمنع الهواء، وبجدران عريضة لمنع البرد والحر، ويوجد في البيوت الكبيرة المربّع؛ وهو الغرفة المطلة على أرض الديار، وغرف عالية تسمى القاعات.

وهي تحوي أثاثاً فاخراً من الأرابيسك ومطعّماً بالصدف، جدرانها مزخرفة بأناقة وروعة لا تضاهى، وسطها بركة ماء تسمى الفستقية، وهي مفتوحة على إيوان مرتفع؛ هو غرفة فقط من ثلاثة جدران، ممتلئ بزخارف فنية مدهشة، وسقفه مزخرف بزخارف خشبية تسمى العجمي، مفتوح على الباحة الكبيرة، يرتفع عليها بما يقارب 40 سنتيمتراً، وتتدلى من الأسقف ثريات كحبال ذهب وفضة.

الطابق الثاني مخصص لغرف النوم التي يُصعد إليها عبر درج داخلي في طرف أرض الديار؛ والذي قد يتواجد تحته غرفة صغيرة، أسقفها تكون عادة من الخشب المحفور، ومعظم الأثاث ركيزته المجالس العربية وطاولاته مرصعة بالصدف، والنوافذ تفتح على صحن الدار لدخول الشمس، وعلى المشارق الكبيرة (المشرقة فسحة في الطابق العلوي) ولا تفتح على الطرقات. بعض البيوت يحوي المندلون؛ وهو نافذة صغيرة للتواصل بين الجيران.

الجدران منقوشة بنقوش عمادها التناظر والتكرار وبمنمنمات متنوعة، والأرضيات الرخامية تزين بالفسيفساء. تقسم البيوت الكبيرة إلى ثلاثة أقسام: السلملك للرجال والحرملك للنساء والخدملك للخدم، توزيعها دقيق بشكل أنيق فخم يهتم بأدق التفاصيل، يسمح بدخول الشمس في كل الأوقات.

اقرأ أيضاً: البروكار الدمشقي.. صناعة قماش الملكات مهدّدة بالانقراض

يقال إن أول بيت من هذا الطراز شيد في عهد معاوية، حيث شيدت داره التي عرفت بدار الإمارة، لكن أغلب هذه البيوت من العهد العثماني فقد كانت العائلات العثمانية الأرستقراطية والأسر الدمشقية العريقة تقيم فيها.

إذ يزيد عمرها على مئات الأعوام، فهذا النوع المعماري برز زمن العثمانيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، لكن هذه البيوت بدأت تندثر وتختفي، فلم يبق منها إلا 14 منزلاً داخل الأسوار و77 منزلاً خارجها، شيدت بطريقة فنية فائقة الجمال تعكس طبيعة أهل دمشق وتجاربهم وحياتهم، فألبسوها كسوة من زخارف نباتية وهندسية، واعتنوا عناية شديدة بالفضاءات والفراغات.

حالياً فرضت كلمة المال سطوتها على هذه البيوت، بعدما صارت مجالاً للاستثمار والكسب المادي؛ إذ جُعل كثير منها مطاعم، وصارت ملجأ لصناع دراما البيئة الشامية للتصوير فيها.

لكنّ بعضها الآخر أُنقذ من براثن المال وأصبح متاحف لتعريف الزوار بتراثها وعراقتها، كما خضعت لإشراف جهات حكومية أو وزارة الثقافة؛ فهي ذات قيمة أثرية سياسية ثقافية؛ إذ يكفيها شرفاً أن أرض ديارها كانت مسرح أبي خليل القباني.

اقرأ أيضاً: ورد دمشق في المغرب: قطف الحبّ بأسوأ سجن سياسي
المساهمون