تحتفظ الذهنية العربية التقليدية بمنطقتين يمتد على مساحتيهما الوجود العربي، هما المشرق الذي يشمل شبه الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر، والمغرب الذي يشمل دول شمال أفريقيا (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب).
لكن ثمة منطقة عربية أخرى تتناساها هذه الذهنية أو تهملها، رغم ازدهار الثقافة العربية فيها، وعراقتها التاريخية، وتأثيرها على ما جاورها من بلدان غير عربية؛ ونقصد المنطقة الممتدة من البحر الأحمر شرقاً حتى المحيط الأطلسي، مروراً بالصحراء الكبرى، والتي تضم السودان وموريتانيا وإرتريا، من دون إهمال الوجود العربي في تشاد والنيجر ومالي. وتسميتنا لهذه المنطقة بالجنوب يخرجها من دائرة التصنيف التقليدي (مشرق ومغرب)، في ما يمكن أن يكون ردّ اعتبار لأبنائها.
قبل دخول الإسلام، كانت هذه المنطقة مسكونة من العنصرين الزنجي والحامي، إلا أن انقلاباً كبيراً حدث في هويتها مع مجيء القبائل العربية إليها لدى بزوغ فجر الإسلام؛ إذ اجتذبت هذه المنطقة الكثير من التجار والدعاة والمغامرين والباحثين عن الكلأ والهاربين من الأوضاع السياسية في بلدانهم، ما أحدث تغييرات جذرية في بنية هذه المنطقة دينياً وثقافياً وحتى سلالياً.
إذ سرعان ما تعرّب معظم سكانها وانتشر الإسلام فيها، وولدت هوية عربية بخصائص جديدة تمثلت في تمازج عربي أفريقي، وفي عادات وتقاليد متأثرة بالبيئة الجديدة، وفي تكوين نفسي يكاد يكون متشابهاً، رغم بُعد المسافة بين شرق هذه المنطقة وغربها، ناهيك عن خصائص ثقافية متقاربة نلاحظها في الغناء والموسيقى ذات السلّم الخماسي واللباس وطقوس الزواج والولادة والدفن...
ومع وصول الاستعمار الغربي إلى هذه المنطقة، نشأت مشكلات جديدة، لعلّ أبرزها مشكلة الهوية التي تدور رحاها الآن في جميع هذه الدول، علماً أن هذا الفضاء الجغرافي الضخم لم يعرف من قبل تناقضات كبيرة بين حياة العرب والعناصر العرقية الأخرى، بل سرعان ما تأثر السكان المحليون بالإسلام واللغة العربية فاقتبسوا عادات كثيرة من العرب، الذين تأثروا بدورهم بالبيئة المحلية الجديدة وطبيعة حياة أهلها.
مشكلات تحوّلت إلى ما يشبه المظلوميات التاريخية، وأدت إلى بروز بؤر نزاع وحروب على أسس عنصرية، كنزاع دارفور الشهير، ومشاكل العرب والزنوج في موريتانيا، وأزمة إقليم أزواد الراغب في الانفصال عن مالي. يُلاحظ أيضاً أن مساحة هذه المنطقة التي نسميها هنا "الجنوب العربي"، قد تقلّصت كثيراً. فقد خسرت الثقافة العربية مساحات مهمة لها في مالي والنيجر، وفي شرق أفريقيا، كزنجبار وتنزانيا وكينيا.
وفي خضمّ الصراعات المحتدمة، ترتفع أصوات أبناء هذا الفضاء الثقافي الواسع لاستنكار تجاهل وعدم اعتراف بقية أنحاء العالم العربي بهم وبالأدوار الحيوية التي لعبوها في تاريخ الثقافة العربية قديماً وحديثاً. ولعلّ للحروب والأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيشها هذه المنطقة دوراً كبيراً في ضعف تأثيرها وانزواء أهلها عن الساحة الثقافية العربية المعاصرة.
يتساءل مثقفو هذا "الهامش" متى سيتبوّأ إدريس جمّاع ومحمد أحمد المحجوب وأمير تاج السر وعبد العزيز بركة ساكن وعبد الله حامد كهال وأحمد ولد عبد القادر وموسى ولد إبنو...، مكانتهم التي يستحقونها في الثقافة العربية المعاصرة؟ وهل سننتظر أن يُقدَّموا من خارج المنظومة الثقافية العربية التقليدية، كما حدث مع مَن اشتهر منهم؟
وإذا كانت هذه المنطقة تمر اليوم باضطرابات كثيرة ومحاولات لطمس هويتها، فإن المؤسسات الثقافية في العالم العربي مطالبة بمد مزيد من الجسور مع أبنائها في هذه المرحلة التاريخية الحساسة، وبإطلاق حوار أكثر عمقاً وشمولاً، وأكثر خوضاً في التفاصيل، من أجل لملمة الذات وبناء ثقافة عربية معاصرة لا تقصي أحداً.