22 أكتوبر 2024
بين دونالد الأول وترامب الثاني
بعد أن حقق نجاحه المفاجئ في الانتخابات الرئاسية الأميركية أخيراً، ظل دونالد ترامب، طوال نصف مدة المائة يوم الأولى، وهي فترة السماح التقليدية للرئيس الجديد، أسيراً لأجواء حملته الانتخابية المفعمة بالهجمات الكلامية الضارية ضد خصومه، ومثقلاً بالآراء العدائية ضد حلفاء الولايات المتحدة وأعدائها في الخارج، ومثيراً أشد الانتقادات لنهجه الملتبس إزاء قضايا خلافية عديدة، وفوق ذلك كله محل شبهةٍ في علاقاته الروسية، الأمر الذي أوجد صورة ذهنية مشوشّة للرجل القادم من عالم العقارات إلى سدة الحكم في واشنطن.
كان من الصعب على النخبة السياسية وأساطين الإعلام وقادة الرأي العام الأميركي، فهم الرئيس المزاجي المتقلّب، وتنميط شخصيته المفتقرة إلى أي خبرة سياسية سابقة، الأمر الذي جعله موضع انتقاد داخلي متصاعد، ومحل هجوم كاسح من إعلامٍ أميركيٍّ سبق لترامب أن وصفه بكل الأوصاف المهينة، وهو ما حدا ببعض أعضاء الحزب الجمهوري إلى الابتعاد عنه، وأدى إلى زيادة مصاعب تكوين فريق مساعدين منسجمين مع رؤيته المفككة لعوالمه الذاتية ومفاهيمه الخاصة.
وفاقم من هذه الصورة الذهنية للرجل الأشقر القاطن لتوه في البيت الأبيض، وقوعه في سلسلة من الأخطاء المتفرّقة، وإخفاقه في الوفاء بوعوده الانتخابية، لا سيما على الصعيد الأميركي. وزاد طين ترامب المبلول بلّة خسارة الرئيس الجديد عدداً من معاركه، وإسقاط بعض قراراته التنفيذية، وإقالة أو استقالة ثلةٍ من مساعديه وأركان فريقه الذي لم يُستكمل بعد، الأمر الذي يشكل بدايةً متعثرة لعهد جمهوري، راح يستنزف نفسه بنفسه.
في التفاصيل التي لا حصر لها، تراجع دونالد ترامب، وبصمت مطبق، عن تعهده إدخال منافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون إلى السجن، وفق ما كان توعّدها المرشح ترامب في مناظرةٍ تلفزيونية، كما أخفق في إثبات اتهامه الرئيس السابق، باراك أوباما، بالتنصت على هواتفه الخاصة خلال الحملة الانتخابية، إلا أن اللطمة الكبرى التي تلقاها الرئيس المعجب بنفسه، كانت فشله الكلي في إلغاء نظام الرعاية الصحية (أوباما كير) بعد أن صوّت نواب جمهوريون ضد مشروع قرار يمسّ بنحو عشرين مليون أميركي.
في غضون ذلك كله، لم يتمكّن دونالد ترامب من تبديد الشكوك التي أحاطت به، وببعض فريق حملته الانتخابية، حول وجود علاقاتٍ مريبةٍ مع فلاديمير بوتين، بل وصلت الشبهات التي قد تقوّض حكم ترامب، وتحول دون إتمام مدة رئاسته، وصلت إلى الكونغرس الأميركي الذي فتح أربعة تحقيقات متزامنة، تولتها لجانٌ خاصة، تفتش، إلى الآن، عن دلائل ووقائع، وأموال تورط بعض هؤلاء بقبضها من شركات روسية وهمية، سعت، بكل ما في وسعها، إلى إسقاط هيلاري كلينتون لصالح من اتهم بأنه رجل بوتين في البيت الأبيض.
وكانت لافتةً تلك الهزيمة المنكرة التي وقعت على رأس دونالد ترامب، في أعقاب إصداره قراراً تنفيذياً يمنع دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية سكانية مسلمة إلى الأراضي الأميركية، حيث قوبل هذا القرار الرئاسي بموجة مظاهراتٍ عارمة، وبحملة إعلاميةٍ مناهضة لهذا القرار المخالف للمبادئ الدستورية المستقرّة، تُوّجت باعتراضاتٍ في الكونغرس، ثم بسلسلة قراراتٍ قضائيةٍ، أصدرها مدّعون عامون فدراليون، ممن يتولّون حراسة السلطة القضائية الأميركية المستقلة.
وعلى صعد أخرى أقل أهمية، ولكنها ذات دلالات بالغة، أخفق دونالد ترامب في مساعيه العلنية إلى إقامة سور مع المكسيك، وعلى نفقة هذا البلد المجاور، لمنع المتسللين من العبور إلى بلد الفرص والثروة والحقوق المدنية. كما تراجع الرئيس الجديد عن هجومه الفظ على شركاء أميركا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذين لم يدفعوا ثمن حماية القوة العظمى الوحيدة لهم، ولم يسدّدوا التزاماتهم، وهو ما بدا أنه أكثر الهدايا التي كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يحلم بها، وأشد ضربة قد تلحق بالمنظومة الغربية في مواجهة نزعة توسع روسي متصاعدة.
في ما يخصنا، نحن في المنطقة العربية، بدت صورة المرشح الأميركي، دونالد ترامب، مثيرةً كل المخاوف والشكوك المحتملة، نظراً لما أسرف فيه من وعود انتخابية تغازل الصوت اليهودي في الولايات المتحدة، إلا أن الرئيس الجديد الذي كاد أن يسقط في أحابيل بنيامين نتنياهو إبّان زيارة الأخير للبيت الأبيض، سرعان ما استردّ وعيه، وعاد عن وعوده بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس فور وصوله إلى المكتب البيضاوي، كما تحفظ على انطلاق حملة استيطانية مسعورة، ولم يمنح إسرائيل ترخيصاً مفتوحاً لضم مستوطناتٍ، وإقامة مزيدٍ منها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفوق ذلك وجه دعوة إلى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وتعهد بعقد صفقة سلام تاريخية، سمتها أوساط "صفقة القرن".
إلى جانب ذلك، تراجع ترامب وفريقه، إلى الآن على الأقل، عن اعتبار جماعة الإخوان المسلمين إرهابية، وأحيا فكرة إقامة مناطق آمنة في الأراضي السورية، ورفع من وتيرة حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية في كل من العراق وسورية، وأبدى تفهماً أعمق وأشمل لهموم
حلفائه التقليديين في المنطقة العربية واهتماماتهم. ورد الاعتبار لعلاقات أميركا التاريخية مع الدول الخليجية، وشدّد، في الوقت ذاته، من حملته السياسية على النفوذ الإيراني، في إطار سعيه المعلن إلى كبح جماح الأحلام الإمبراطورية التوسعية الفارسية.
على أن نقطة التحول في سياسة الرئيس الأميركي المهموم بتكريس زعامته الداخلية، واستعادة هيبة الدولة العظمى عالمياً، تمثلت في الضربة الصاروخية الموجهة لقاعدة جويةٍ سوريةٍ مشمولةٍ بالحماية الروسية، على خلفية المجزرة الكيميائية التي ارتكبتها قوات بشار الأسد في خان شيخون، تلك الضربة التي تعتبر نقلة نوعية، إن لم نقل إنها فاتحة عريضة لسلسلة من التحوّلات الأميركية المحتملة في هذه المنطقة التي لا مفر لأي رئيس أميركي من الانخراط في شؤونها وشجونها الكثيرة، ليس لنفطها وممرّاتها الملاحية فقط، ولا لوجود إسرائيل فيها وحسب، وإنما أيضاً للأطماع الروسية المتماهية مع مثيلتها الإيرانية.
إزاء ذلك كله، يمكن القول، إن دونالد ترامب، في صورته الذهنية السابقة (دونالد الأول)، هو غير دونالد ترامب الثاني في صورته الثانية، حيث تتجلى ملامحه هذه في المرآة الداخلية الأميركية الكبيرة بوضوح تام، وفي المرآة الشرق أوسطية الأصغر كذلك. إذ مع تلك الضربة الصاروخية لقاعدة الشعيرات، أوائل شهر أبريل/ نيسان الجاري، تلاشى شعار "أميركا أولاً" الانعزالي من تلقاء نفسه، وتوارت شخصية المرشّح الباهت، لتحل محلها معطيات زعامةٍ أميركية حقيقية، تقود النظام الدولي من جديد، وتشد العصب الأوروبي بقوة، بعد ثماني سنوات من التراجع والرخاوة، هي كامل فترتي رئاسة باراك أوباما.
كان من الصعب على النخبة السياسية وأساطين الإعلام وقادة الرأي العام الأميركي، فهم الرئيس المزاجي المتقلّب، وتنميط شخصيته المفتقرة إلى أي خبرة سياسية سابقة، الأمر الذي جعله موضع انتقاد داخلي متصاعد، ومحل هجوم كاسح من إعلامٍ أميركيٍّ سبق لترامب أن وصفه بكل الأوصاف المهينة، وهو ما حدا ببعض أعضاء الحزب الجمهوري إلى الابتعاد عنه، وأدى إلى زيادة مصاعب تكوين فريق مساعدين منسجمين مع رؤيته المفككة لعوالمه الذاتية ومفاهيمه الخاصة.
وفاقم من هذه الصورة الذهنية للرجل الأشقر القاطن لتوه في البيت الأبيض، وقوعه في سلسلة من الأخطاء المتفرّقة، وإخفاقه في الوفاء بوعوده الانتخابية، لا سيما على الصعيد الأميركي. وزاد طين ترامب المبلول بلّة خسارة الرئيس الجديد عدداً من معاركه، وإسقاط بعض قراراته التنفيذية، وإقالة أو استقالة ثلةٍ من مساعديه وأركان فريقه الذي لم يُستكمل بعد، الأمر الذي يشكل بدايةً متعثرة لعهد جمهوري، راح يستنزف نفسه بنفسه.
في التفاصيل التي لا حصر لها، تراجع دونالد ترامب، وبصمت مطبق، عن تعهده إدخال منافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون إلى السجن، وفق ما كان توعّدها المرشح ترامب في مناظرةٍ تلفزيونية، كما أخفق في إثبات اتهامه الرئيس السابق، باراك أوباما، بالتنصت على هواتفه الخاصة خلال الحملة الانتخابية، إلا أن اللطمة الكبرى التي تلقاها الرئيس المعجب بنفسه، كانت فشله الكلي في إلغاء نظام الرعاية الصحية (أوباما كير) بعد أن صوّت نواب جمهوريون ضد مشروع قرار يمسّ بنحو عشرين مليون أميركي.
في غضون ذلك كله، لم يتمكّن دونالد ترامب من تبديد الشكوك التي أحاطت به، وببعض فريق حملته الانتخابية، حول وجود علاقاتٍ مريبةٍ مع فلاديمير بوتين، بل وصلت الشبهات التي قد تقوّض حكم ترامب، وتحول دون إتمام مدة رئاسته، وصلت إلى الكونغرس الأميركي الذي فتح أربعة تحقيقات متزامنة، تولتها لجانٌ خاصة، تفتش، إلى الآن، عن دلائل ووقائع، وأموال تورط بعض هؤلاء بقبضها من شركات روسية وهمية، سعت، بكل ما في وسعها، إلى إسقاط هيلاري كلينتون لصالح من اتهم بأنه رجل بوتين في البيت الأبيض.
وكانت لافتةً تلك الهزيمة المنكرة التي وقعت على رأس دونالد ترامب، في أعقاب إصداره قراراً تنفيذياً يمنع دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية سكانية مسلمة إلى الأراضي الأميركية، حيث قوبل هذا القرار الرئاسي بموجة مظاهراتٍ عارمة، وبحملة إعلاميةٍ مناهضة لهذا القرار المخالف للمبادئ الدستورية المستقرّة، تُوّجت باعتراضاتٍ في الكونغرس، ثم بسلسلة قراراتٍ قضائيةٍ، أصدرها مدّعون عامون فدراليون، ممن يتولّون حراسة السلطة القضائية الأميركية المستقلة.
وعلى صعد أخرى أقل أهمية، ولكنها ذات دلالات بالغة، أخفق دونالد ترامب في مساعيه العلنية إلى إقامة سور مع المكسيك، وعلى نفقة هذا البلد المجاور، لمنع المتسللين من العبور إلى بلد الفرص والثروة والحقوق المدنية. كما تراجع الرئيس الجديد عن هجومه الفظ على شركاء أميركا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذين لم يدفعوا ثمن حماية القوة العظمى الوحيدة لهم، ولم يسدّدوا التزاماتهم، وهو ما بدا أنه أكثر الهدايا التي كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يحلم بها، وأشد ضربة قد تلحق بالمنظومة الغربية في مواجهة نزعة توسع روسي متصاعدة.
في ما يخصنا، نحن في المنطقة العربية، بدت صورة المرشح الأميركي، دونالد ترامب، مثيرةً كل المخاوف والشكوك المحتملة، نظراً لما أسرف فيه من وعود انتخابية تغازل الصوت اليهودي في الولايات المتحدة، إلا أن الرئيس الجديد الذي كاد أن يسقط في أحابيل بنيامين نتنياهو إبّان زيارة الأخير للبيت الأبيض، سرعان ما استردّ وعيه، وعاد عن وعوده بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس فور وصوله إلى المكتب البيضاوي، كما تحفظ على انطلاق حملة استيطانية مسعورة، ولم يمنح إسرائيل ترخيصاً مفتوحاً لضم مستوطناتٍ، وإقامة مزيدٍ منها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفوق ذلك وجه دعوة إلى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وتعهد بعقد صفقة سلام تاريخية، سمتها أوساط "صفقة القرن".
إلى جانب ذلك، تراجع ترامب وفريقه، إلى الآن على الأقل، عن اعتبار جماعة الإخوان المسلمين إرهابية، وأحيا فكرة إقامة مناطق آمنة في الأراضي السورية، ورفع من وتيرة حربه ضد تنظيم الدولة الإسلامية في كل من العراق وسورية، وأبدى تفهماً أعمق وأشمل لهموم
على أن نقطة التحول في سياسة الرئيس الأميركي المهموم بتكريس زعامته الداخلية، واستعادة هيبة الدولة العظمى عالمياً، تمثلت في الضربة الصاروخية الموجهة لقاعدة جويةٍ سوريةٍ مشمولةٍ بالحماية الروسية، على خلفية المجزرة الكيميائية التي ارتكبتها قوات بشار الأسد في خان شيخون، تلك الضربة التي تعتبر نقلة نوعية، إن لم نقل إنها فاتحة عريضة لسلسلة من التحوّلات الأميركية المحتملة في هذه المنطقة التي لا مفر لأي رئيس أميركي من الانخراط في شؤونها وشجونها الكثيرة، ليس لنفطها وممرّاتها الملاحية فقط، ولا لوجود إسرائيل فيها وحسب، وإنما أيضاً للأطماع الروسية المتماهية مع مثيلتها الإيرانية.
إزاء ذلك كله، يمكن القول، إن دونالد ترامب، في صورته الذهنية السابقة (دونالد الأول)، هو غير دونالد ترامب الثاني في صورته الثانية، حيث تتجلى ملامحه هذه في المرآة الداخلية الأميركية الكبيرة بوضوح تام، وفي المرآة الشرق أوسطية الأصغر كذلك. إذ مع تلك الضربة الصاروخية لقاعدة الشعيرات، أوائل شهر أبريل/ نيسان الجاري، تلاشى شعار "أميركا أولاً" الانعزالي من تلقاء نفسه، وتوارت شخصية المرشّح الباهت، لتحل محلها معطيات زعامةٍ أميركية حقيقية، تقود النظام الدولي من جديد، وتشد العصب الأوروبي بقوة، بعد ثماني سنوات من التراجع والرخاوة، هي كامل فترتي رئاسة باراك أوباما.
مقالات أخرى
15 أكتوبر 2024
08 أكتوبر 2024
01 أكتوبر 2024