لسنا بملائكة، ومن يرى أنه بلا أخطاء فليرنا أجنحته، رأيت أن طرح العورات الفكرية والتربوية بالمعتقل، لأن تصحيحها لن يتأتى إلا بالوقوف عليها، والتفتيش عن آثارها، لمعالجتها، لا سيما أن عرض مشاكلنا وأخطاء جيلنا يعد توثيقاً هاماً لمعاناة جيل يفتقد لمن يقوده لزمام الفهم الصحيح، جيل تشوهت ملامحة التربوية وتفحمت "بغلايات" أفكار الآخرين.
"نهش كلامهن"
"س".. في أواخر العشرينيات من عمرها، تعرضت لصدمة نفسية من أثر الضرب أفقدتها الذاكرة لشهرين أو يزيد. البداية كانت وهي ترى مساومات رخيصة وتربيطات بين رجال أمن الدولة ورفيقاتها المعتقلات بنفس قضيتها، أحاديث جانبية مقصودة، بالنداء على كل واحدة من مجموعتها على حدة، ثم تأتي كل واحدة منهن لتقوم بدور المخبر بالاستفسار عن الأخريات بشكل يثير الشك.
المحامون كما تسرد، أعطوا لجميع المعتقلات بقضيتها تعليماتهم : "استعبطي فيها.. انت مخرجتيش تتظاهري.. المظاهرة هي اللي جت لحد عندك" الجميع يحفظ تلك الجملة ويرددها.
"نهش كلامهن"
"س".. في أواخر العشرينيات من عمرها، تعرضت لصدمة نفسية من أثر الضرب أفقدتها الذاكرة لشهرين أو يزيد. البداية كانت وهي ترى مساومات رخيصة وتربيطات بين رجال أمن الدولة ورفيقاتها المعتقلات بنفس قضيتها، أحاديث جانبية مقصودة، بالنداء على كل واحدة من مجموعتها على حدة، ثم تأتي كل واحدة منهن لتقوم بدور المخبر بالاستفسار عن الأخريات بشكل يثير الشك.
المحامون كما تسرد، أعطوا لجميع المعتقلات بقضيتها تعليماتهم : "استعبطي فيها.. انت مخرجتيش تتظاهري.. المظاهرة هي اللي جت لحد عندك" الجميع يحفظ تلك الجملة ويرددها.
يقولون إن الصدق أقصر طريق للنجاة، لكن بموقفنا هذا فالكذب أقصر الطرق للخروج. ولك أن تختلق من المبررات ما شئت.
حبل الثقة أوشك علي الانقطاع وانفرطت حباته، وهي تقطع على نفسها عهداً يومياً قبل أن ترفع غطاء وجهها عند النوم: "لن أكذب أمام النيابة، لن أهرب من مصيري بالكذب والتدليس! إن الكل سيكذب بدعوى المكر في مواجهة الاستبداد من سيقف للمستبد إذاً! ثم أليست هي بمعركة صدق أم هو ابتلاء، أم ماذا!
أسئلة لم تجد لها إجابة بعقلها ففتحت لها طريقا آخر "سماويا" بأسئلة خارج الحدود الأرضية، هرباً من وجوه سقطت من عينها بغير عمد.
لم يصمد عقل الفتاة أمام الضرب المبرح من رجال الأمن فأصيبت بانهيار نفسي مزمن، وحينها أتى تهوين الله، بإعطاء عقلها إجازة عن العمل لشهرين متتابعين "إيقاف عقل"، جمل غير مفهومة ببكاء منهمر: "افتحوا الباب عاوزة أشوف النور.. والله ساعة النصر جاية، انضفوا بقى"، وفي تصرف غير مفهوم أيضاً تصب بجردل المياه على بطاطين المعتقلات المفترشة بزنزانة الحجز وهم نائمون، فيصرخون في وجهها ويتطاولون عليهم دون فهم معاناتها.
لم تسلم تلك الفتاة من آفة التطفل وهتك خصوصياتها من الآخرين، اللاتي حملن أسواط لا تقل إيلاماً عن أسواط الداخلية "نهش كلامهن" ظل يلاحقها، فالراويات عنها كثيرة وبعضها مثير للاشمئزاز في تفسير حالة الاكتئاب التي لحقت بها، فهناك راوية تقول إن المسكينة تعاني من مشكلة "عاطفية" بعد أن تخلى عنها أحدهم، وإن "فلان" أرسل إليها بجواب، بعد أن قرأته دخلت في حالة من الحزن.
الكل يتداول الحديث عن فلان ويزيد في القصة أو ينقص حسب رغبته، ومنهن من ظن أنها متزوجة منه عرفياً ولم تخبر أهلها لشدة ارتباطها به ومناداتها باسمه!
ومنهن من ظنت بأنها "ملبوسة" وبحاجه لشيخ لإخراج جني قد أصابها بمكروه، وبعضهن رأى أن عقلها "يوزن بلد" وأنها تمثل المرض لجلب تعاطف الأمن فتحظى بإخلاء سبيل.
التطفل وسوء الظن آفة أصيب بها الكثيرون هنا. تقول "س" لا ألوم عليهن إلا في مأخذ واحد، وهو أن ينتقل الشك من حيز التفكير العقلي إلى النطق به.
لم تنته قصة "س" التي عجز جهازها العصبي عن استيعاب تلك الضغوط والاستفزازات، إلا بحفنة من المهدئات تؤخذ تحت ضغوطات ومحايلات بعد أن ساءت حالتها.
في لحظة إدراك أرادها الله، استيقظت من نومها، نظرت إلى من حولها متسائلة بصوت عال.. "هو احنا النهاردة كام في الشهر؟!".. لم تع ما حدث لها طوال شهري فبراير/شباط ومارس/آذار، لم تتذكر سوى مشاهد الاعتداء وبضعة أحلام وأحاديث.
(مصر)
حبل الثقة أوشك علي الانقطاع وانفرطت حباته، وهي تقطع على نفسها عهداً يومياً قبل أن ترفع غطاء وجهها عند النوم: "لن أكذب أمام النيابة، لن أهرب من مصيري بالكذب والتدليس! إن الكل سيكذب بدعوى المكر في مواجهة الاستبداد من سيقف للمستبد إذاً! ثم أليست هي بمعركة صدق أم هو ابتلاء، أم ماذا!
أسئلة لم تجد لها إجابة بعقلها ففتحت لها طريقا آخر "سماويا" بأسئلة خارج الحدود الأرضية، هرباً من وجوه سقطت من عينها بغير عمد.
لم يصمد عقل الفتاة أمام الضرب المبرح من رجال الأمن فأصيبت بانهيار نفسي مزمن، وحينها أتى تهوين الله، بإعطاء عقلها إجازة عن العمل لشهرين متتابعين "إيقاف عقل"، جمل غير مفهومة ببكاء منهمر: "افتحوا الباب عاوزة أشوف النور.. والله ساعة النصر جاية، انضفوا بقى"، وفي تصرف غير مفهوم أيضاً تصب بجردل المياه على بطاطين المعتقلات المفترشة بزنزانة الحجز وهم نائمون، فيصرخون في وجهها ويتطاولون عليهم دون فهم معاناتها.
لم تسلم تلك الفتاة من آفة التطفل وهتك خصوصياتها من الآخرين، اللاتي حملن أسواط لا تقل إيلاماً عن أسواط الداخلية "نهش كلامهن" ظل يلاحقها، فالراويات عنها كثيرة وبعضها مثير للاشمئزاز في تفسير حالة الاكتئاب التي لحقت بها، فهناك راوية تقول إن المسكينة تعاني من مشكلة "عاطفية" بعد أن تخلى عنها أحدهم، وإن "فلان" أرسل إليها بجواب، بعد أن قرأته دخلت في حالة من الحزن.
الكل يتداول الحديث عن فلان ويزيد في القصة أو ينقص حسب رغبته، ومنهن من ظن أنها متزوجة منه عرفياً ولم تخبر أهلها لشدة ارتباطها به ومناداتها باسمه!
ومنهن من ظنت بأنها "ملبوسة" وبحاجه لشيخ لإخراج جني قد أصابها بمكروه، وبعضهن رأى أن عقلها "يوزن بلد" وأنها تمثل المرض لجلب تعاطف الأمن فتحظى بإخلاء سبيل.
التطفل وسوء الظن آفة أصيب بها الكثيرون هنا. تقول "س" لا ألوم عليهن إلا في مأخذ واحد، وهو أن ينتقل الشك من حيز التفكير العقلي إلى النطق به.
لم تنته قصة "س" التي عجز جهازها العصبي عن استيعاب تلك الضغوط والاستفزازات، إلا بحفنة من المهدئات تؤخذ تحت ضغوطات ومحايلات بعد أن ساءت حالتها.
في لحظة إدراك أرادها الله، استيقظت من نومها، نظرت إلى من حولها متسائلة بصوت عال.. "هو احنا النهاردة كام في الشهر؟!".. لم تع ما حدث لها طوال شهري فبراير/شباط ومارس/آذار، لم تتذكر سوى مشاهد الاعتداء وبضعة أحلام وأحاديث.
(مصر)