بين "شارلي" وفلسطين

16 يناير 2015
+ الخط -
أعلن كثيرون، بلا تردد، انخراطهم في موجة تضامن إنساني مُعولم مع ضحايا الصحيفة الساخرة "شارلي إيبدو"، عبر تقمّص عبارة قصيرة بدت، من فرط التداول والانتشار، كتميمة سحرية: "أنا شارلي". كثيرون فعلوا ذلك بتلقائية التعاطف المبدئي الذي لا يأبه بتفاصيل الخلفية والسياق وتدقيقات المشهد العام.
كثيرون فعلوا ذلك، وهم يتذكّرون قافلة طويلة من شهداء الإرهاب وضحاياه. ولعلّهم، هنا، قد استحضروا عمر بنجلون، حسين مروة، مهدي عامل، فرج فودة، شكري بلعيد، وآخرين.
كثيرون منهم يعرفون، بالبداهة، أن وراء الدموع والأحزان والخسارات والعواطف، ستنتصب توازنات القوى والدول وحسابات السياسة في لعبة الأمم. لكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك، ولم يخطئوا التقدير ولا التوصيف: ثمة وضوح كافٍ في الصورة، ثمة دم مُراقٌ باسم السماء، ثمة قتل جبانٌ، ثمة ضحايا وثمة مجرمون. ثمة إرهاب.
كثيرون يعرفون بالتجربة أن الإرهاب ليس قدراً يخص الآخرين، ولا هو خطر مُتخيّل، بل هو تهديد جديٌ وحقيقي. فوق ذلك، هو لا يضرب فقط في أميركا، إنجلترا، إسبانيا، وفرنسا، حتى نجعله في التحاليل السهلة مجرد متغيّر تابع لتغوّل قوى الهيمنة والاستعمار، بل إنه كثيراً ما يفاجئنا بالشراسة والدم البارد، قرب اطمئناننا "الشرقي"، في مقهى في الدار البيضاء أو مطعم في الإسكندرية، أو مدرسة أطفال في الجزائر العاصمة.
إنه الإرهاب نفسه، على الرغم من اختلاف القَتَلة، على الرغم من اجتهادنا "الغامض" في حشد المبررات، وعلى الرغم من تعدد الضحايا.
هو نفسه عندما يطال اليساري المغربي، المفكر اللبناني، المسرحي الجزائري، السائح الألماني، الطفل الفلسطيني، النائب التونسي، الكاتب المصري. أو عندما تنفتح شهية الموت على ضحاياه بالجملة: أميركيون وأجانب معلقون في الأبراج المعدنية في نيويورك، إسبان ومغاربيون في الرحلة القصيرة لقطار الصباح في مدريد، إنجليز وعرب وهنود في المحطة الأخيرة لميترو لندن، أو صالة التحرير الكاملة للجريدة الباريسية.
لذلك، نخطئ، بالتأكيد، عندما نبحث للإرهاب عن مبررات. ليس من مبرر للبربرية. تبرير الإرهاب مكافأة مجزية للقتل. تبرير الإرهاب محاولة يائسة لأنسنة الوحشية. الإرهاب في
الأصل نفي للسياسة وللحياة، تبريره تحويل للقتل إلى جواب ممكن على شروخ الهوية وجراح التفاوتات وأعطاب السياسة.
الإرهاب لا يستحق سوى ما يعادله من إدانة أخلاقية مطلقة.
استحضر بعضهم، بلا تدقيق، قضية الرسوم المسيئة للرسول الكريم، وطبعاً، هناك مَن حوّل هذا الاستحضار من تذكير بالخلفية العامة للحدث، إلى تقديم مبررات للجريمة الإرهابية. مع أنه لو افترصنا، مع عزمي بشارة، أن "ما قامت به الصحيفة هو تجاوز لحرية التعبير إلى التحريض على المقدسات، فماذا يمسّ المقدسات، تلطيخها بسفيه الكلام، أم تلطيخها بدم الضحايا وتلويثها بالجريمة؟
استدعى بعض آخر إلى النقاش، وإلى بناء المواقف، فلسطين. فعل ذلك، ربما بحكم العادة والسّهولة، مُقدماً القضية الفلسطينية مُبرراً جاهزاً لكُلِّ الأعمال الإرهابية. هؤلاء، وهم كثر، لم يُدركوا بالتأكيد حجم الإساءة التي أقدموا عليها في حق فلسطين.
نعم، ستظلّ فلسطين عاراً كبيراً يلاحق الأزمنة الحديثة للبشرية، وعنواناً صادماً لأحد الاختلالات الأخلاقية الأساسية للعالم اليوم. ولذلك، المؤكد أنها مصدرٌ غنيٌ للتوتر، ولصناعة مشاعر الإحباط واللاعدالة وتغذيتها.
لكن ذلك كله لا يُجيز لأحد ارتكاب جنونه باسمها، ولا يسمح لنا بإعلانها حجة دائمة لتبرير الوحشية.
الطريق نحو فلسطين يمُرُّ، حتماً، عبر قناة الضمير الإنساني، وداخل هذا الضمير ثمة بوصلة لا يجب أن نضيعَ "شمالها"، هي بوصلة الحرية. لذلك، فلسطين لا يمكن أن تخطئ خندقها.
فلسطين إما أن تكون عنواناً للتقدم والحرية والتسامح، أو لا تكون. فلسطين اختبار الإنسانية وعنوان العدالة المرجوّة. فلسطين التي كثيراً ما تجمع بين غصن الزيتون وبندقية المقاومة، ليست أبداً حجة للإرهاب والقتل الأعمى.
لذلك، وعلى الرغم من تسلّل مُجرم حرب مقيتٍ الى مشهد التضامن في مسيرة باريس، وعلى الرغم من حجم النفاق الذي قد يكون أحاط بالموضوع، فإن الحضور الفلسطيني في لوحة الحداد الإنساني الواسع كان بالغ الدلالة. شراكة الآلام الإنسانية مفتاح ضروري لاستعادة فلسطين معركة الضمير العالمي.
في المحصّلة، وبهذا المعنى، ليس في الأمر تناقض بين أن يعلن المرء مُزاوجته بين الاستعارتين: أنا شارلي، أنا فلسطين.

2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي