بوركينافاسو.. مصداقية الاتحاد الإفريقي

08 نوفمبر 2014

زعماء المعارضة البوركينابية في واغادوغو للاجتماع بالاتحاد الإفريقي(5نوفمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

أقر الأفارقة في قمة منظمة الوحدة الأفريقية في الجزائر في 1999، ولأول مرة في تاريخ القارة، مبدأ رفض الانقلابات وانتقال السلطة بطرق غير مشروعة. وعلى أساسه، دانت المنظمة الإفريقية ورفضت الانقلاب العسكري في جزر القمر. وتم بعدها تكريس هذا المبدأ في الميثاق التأسيسي للاتحاد الإفريقي (يوليو/تموز 2000) ليصبح من مبادئه المؤسِّسة، حيث تنص المادة الرابعة منه على "إدانة التغييرات غير الدستورية ورفضها". وتطبيقاً له، جمد الاتحاد عضوية خمس دول: موريتانيا وغينيا ومدغشقر ومالي ومصر، مشترطاً عودة الشرعية الدستورية عبر تنظيم انتخابات ديمقراطية.

ثم تبنى الاتحاد "الميثاق الإفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم الرشيد" في 2007 (دخل حيز التنفيذ في فبراير/شباط 2012)، يُمنع، بموجبه، من قادوا الانقلابات من تولي مناصب سياسية والترشح للانتخابات. حيث ينص في مادته 25 (فقرة 4) على أنه "لا يجوز لمرتكبي التغيير بطرق غير دستورية المشاركة في الانتخابات السياسية التي تجري لاستعادة النظام الديمقراطي، أو تولي مناصب المسؤولية في المؤسسات السياسية للدولة". وينص في فقرته الخامسة من المادة نفسها على أنه يمكن إحالة من قاموا بتغيير غير دستوري إلى القضاء المختص للاتحاد الإفريقي.

فشل الاتحاد الإفريقي في تطبيق هذه المبادئ، بل يمكن القول إنه أصبح مؤسسة قارية لتبييض الانقلابات وشرعنتها. حيث انتهى به الأمر إلى تزكية الانقلابات، وما تمخض عنها من سلطة مبتورة الشرعية. فهذه الأحكام الديمقراطية لم تطال الرئيس الموريتاني الحالي، محمد ولد عبد العزيز، الذي وصل إلى الحكم في انتخابات بعد قيادة الانقلاب العسكري على رئيس منتخب، ولا الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السيسي، الذي سار على منواله. ونعلم أن أي قائد انقلاب لا ينظم انتخابات، مهما كانت درجتها الشكلية، ليخسرها. فقد رفع الاتحاد الإفريقي تعليق عضوية مصر، مزكياً بذلك الانقلاب العسكري، ومنتهكاً المادة الرابعة من الميثاق الإفريقي للديمقراطية.

هكذا، عوض أن يطبق الاتحاد الإفريقي أحكامه الديمقراطية، أصبح مؤسسة إقليمية لتزكية الانقلابات العسكرية وتبيضها، ومؤسسة مناوئة للشعوب الإفريقية، باختياره معسكر الأنظمة الحاكمة، ما يجعل مصداقيته على المحك. وما يشير إلى أن الدول التسلطية الإفريقية نجحت في استنساخ التسلطية الوطنية، بإعادة إنتاجها قارياً، جاعلة من الاتحاد الإفريقي درعاً يقيها، ويزكي سلوكياتها.

ويبدو أن المستقبل القريب لا يبشر بخير. فهناك أزيد من عشرين دولة إفريقية مقبلة على انتخابات رئاسية في السنوات القليلة المقبلة، وهناك نحو عشر منها، يحاولها رؤساؤها تغيير الدساتير للترشح مجدداً، بمعنى دسترة الرئاسة مدى الحياة، ما يشير إلى أن القارة تسير في الاتجاه المعاكس للتطور الديمقراطي. ففي أقصى شمال القارة، تمكن عبد العزيز بوتفليقة (في 2008) من تعديل الدستور للبقاء في الحكم، ثم الفوز بعهدة رابعة في 2014، وإن أكمل الأخيرة يكون قد حكم البلاد طوال عشرين عاماً.

أما في بوركينافاسو، فإن محاولة بليز كومبواريه، الذي يحكم البلاد منذ الانقلاب العسكري الذي قاده ضد صديقه طوماس سانكارا في 1987، باءت بالفشل، بعد بداية "ربيع إفريقي" هناك.


بيد أن العسكر أجهضوا الانتفاضة الشعبية في مهدها، بالاستحواذ على السلطة، بعد خروج كومبوريه من البلاد خروجاً آمناً باتجاه كوت ديفوار. وهنا، نلاحظ كيف أن القوى الغربية تعمل، دائماً، على ضمان سلامة أهل التسلط الذين كانوا حلفاء لها. فأميركا لعبت دوراً في تأمين خروج زين العابدين بن علي من تونس، وإيجاد منفى له، وها هي فرنسا تفعل الشيء نفسه مع كومبواريه.

وردة فعل على ما يحدث في بوركينافاسو، طلب الاتحاد الإفريقي من العسكر ضمان مرحلة انتقالية مدنية. لكن، بغض النظر عن تطورات المشهد البوركينابي، فإنه لا مصداقية للاتحاد الإفريقي عندما يتحدث عن الانتقال المدني. فهو سيزكّي ما يقرره العسكر في هذا البلد، كما زكّى ما قرره العسكر في موريتانيا وفي مصر.

وربما السابقة المصرية هي الأخطر، لسببين على الأقل. أولهما أن الميثاق الإفريقي للديمقراطية ساري المفعول منذ 2012، وبالتالي، كان متوقعاً أن يُطبق على مصر، لكن الاتحاد لم يفعل ذلك قط. ثانيهما، أن العسكر في مصر أطاحوا رئيساً منتخباً ديمقراطياً (على نمط المشهد الموريتاني). وعليه، فإن الاتحاد الإفريقي ضيع فرصة تاريخية، لإخراج القارة السمراء من عالم التسلطية، وإدخالها عالم الديمقراطية. لكن، كما هو الحال مع المنظمات الدولية، ليست المشكلة فيه، وإنما في دوله الأعضاء، لاسيما النافذة. ثم إنه لا يمكن لدول غير ديمقراطية أن تقيم أجهزة إقليمية ديمقراطية، ففاقد الشيء لا يعطيه.

ولا نبالغ، إذا قلنا إن الاتحاد الأفريقي يلعب في سياق الأزمة البوركينابية في الوقت بدل الضائع. لذا، عليه تدارك الأمور قبل فوات الأوان، خاصة أنه لم يحرك ساكناً لما أقبل رؤساء دول إفريقية (تشاد، كاميرون، أوغندا، موريتانيا، تونس، توغو، غينيا كوناكري، الجزائر...) على تغيير الدساتير للبقاء في الحكم. ومن ثم، فإن تهاون هذه المرة فسيزكي عملياً وبشكل مسبق ما قد يحدث في 2016 و2017 في دول أخرى (الكونغو، كونغو برازافيل، رواندا، بورندي...) يعمل رؤساؤها على دسترة الرئاسة على مدى الحياة. والآلية المتبعة في البلدان الإفريقية هي نفسها: تعديل المادة الدستورية التي تحدد عدد العهد الرئاسية.

ويبدو أن الاتحاد الإفريقي غمرته موجتان زاحفتان. تكمن الأولى في الانقلابات العسكرية وتنظيم انتخابات لشرعنة حكم الانقلابيين، فيما تتمثل الثانية في تعديل الدستور للبقاء في الحكم. وهما وجهان لعملة واحدة، ذلك أن الانقلابيين ينظمون انتخابات لشرعنة الانقلاب، ثم بعد سنوات، وحتى عقود من الحكم، يغيرون الدستور للهدف ذاته.