عملٌ مُضنٍ وممتع ومختلف في آن؛ هكذا تصف بوران درخشنده تجربتها في عالم السينما الذي طرقته من زاوية القضايا الإنسانية والاجتماعية. درخشنده المولودة في كرمانشاه، غربي إيران، عام 1951، درست الإخراج السينمائي في "المدرسة العليا لعلوم التلفزيون والسينما" في طهران، وهي من أوائل الإيرانيات اللاتي دخلن عالم صناعة السينما بعد قيام "الثورة الإسلامية" نهاية السبعينيات؛ حيث بدأت مسيرتها بأفلام وثائقية، قبل أن يتوزّع انشغالها بين الإخراج والإنتاج والكتابة.
بالطبع، فإن زمن ما بعد الثورة ليس كما قبله. تحوّلات كثيرة طرأت على إيران وحوّلت مسارات كثيرة، بما فيها الثقافي والفني والسينمائي.
في حديثٍ مع "العربي الجديد"، تقول درخشنده: "أستطيع وصف صناعة السينما الإيرانية ما قبل الثورة بعالم الرجال. مكان المرأة لم يكن واضحاً، ولم تستطع وضع بصمتها فيه. اليوم، اختلف الوضع كثيراً، ربّما بحكم تطوّر الحياة أيضاً. لم تعد المرأة الإيرانية ممثّلةً فقط، بل أصبحت مخرجةً ومنتجةً ومصوّرةً، ودخلت فضاءات أرحب؛ كالسينما والمسرح".
رغم ذلك، لا تزال الأسماء النسوية المعروفة في الإخراج السينمائي قليلة. عن ذلك، تقول: "صحيح أن عدد المخرجات البارزات في السينما الإيرانية يُعدّ على أصابع اليد الواحدة، قرابة ثماني مخرجات، لكن هناك كثيرات يشتغلن الآن في مجالي الوثائقيات والأفلام القصيرة، وأعتقد أن العدد في تزايد. بإمكان المخرجة الإيرانية أن تُحقّق الكثير في المستقبل القريب مقارنةً بعدد من البلدان الأخرى".
تردّ درخشنده تفاؤلها إلى تركيز السينمائيات الإيرانيات على قضايا إنسانية في المجتمع، وأيضاً على قضاياهن الخاصة. في أفلامها الاجتماعية، تركّز درخشنده على قضايا المرأة الإيرانية كالطلاق والإدمان. فيلمها "صه.. البنات لا يصرخن" (2014) حاز إعجاب الجمهور والنقّاد وحصل على جوائز عديدة. وقبل ذلك، نال عملها "طائر السعادة الصغير" (1988) عدّة جوائز.
هذا الاشتغال لا يبدو بمعزل عن التوجّه العام للمخرجات الإيرانيات اللواتي "ينشغلن بقضايا عديدة؛ أبرزُها الاجتماعية، وتلك التي تُعنى بشؤون المرأة. هنّ يتطرقن إلى قضايا حسّاسة وجدلية تُسائل المجتمع وتشغله كثيراً. هذا ما يميّز سينما المرأة الإيرانية التي تلقى استحسان الجمهور".
برأيها، فإن كثرة التفاصيل وبساطة القضايا التي تركّز عليها السينما الإيرانية هو ما يجعلها مختلفة. تعتبر أن التركيز على قضايا الإنسان هو الأهم، ووجود المرأة في هذه الصناعة أمر جوهري، لا سيما أن البلاد تحتل المرتبة الرابعة عالمياً من حيث الإنتاج السينمائي "تركز النساء على القضايا الإنسانية، ولكنهن يُضفين روحاً على الأفلام، وهذا ليس بالأمر السهل، لكنه سبب للنجاح".
تشدّد المخرجة على أن تلك الجوانب إيجابية وتشكّل نقاط قوّة في سينما بلدها، لكنها تؤكّد أن حضور النساء، كمخرجات ومنتجات وكاتبات، في الفن السابع، يجب أن يكون أفضل.
توضّح "المرأة موجودةٌ اليوم في كل المجالات الفنية؛ فهي تعمل في المسرح وتصميم الأزياء وكتابة السيناريو والحوار، ولديها مسؤوليات كبيرةٌ في المجتمع، فكما تحاول المرأة الإيرانية الحفاظ على عائلتها، تعمل في الوقت نفسه على تحقيق أحلامها وطموحاتها".
وتضيف "نسب التعليم بين الإيرانيات عالية، وحضورهن على مقاعد الدراسات العليا كبير جدّاً. لكن المطلوب هو توفير ظروف عمل أفضل لها في عالم السينما. حضورها في صناعة الأفلام يجب أن يُصبح ملحوظاً". هنا، تؤكّد أن هذا الوضع لا يقتصر على إيران وحدها، بل ينطبق على هوليوود نفسها، "السينما عالم يسيطر عليه الرجال".
لكن كيف يمكن لها أن تحقّق النجاح المنشود بوجود الكثير من المحدّدات والقيود التي تُضاف إلى القوانين، التي تحكم طبيعة العمل؟ تجيب درخشنده قائلةً: "من الطبيعي وجود مصاعب وقوانين. لكن ما يجب العمل عليه هو الاستفادة منها لخلق عمل فريد ومختلف ومميّز. التركيز على قضايا لصيقة بالمجتمع في الأعمال السينمائية يفتح المجال لشدّ جماهير أكبر، وهذا هو المطلوب برأيي".
كيف تنظر إلى الحجاب وهل ترى أنه يحدّ العمل أو يفرض قيوداً معيّنة عليه؟ باعتقاد درخشنده فإن الحجاب "جعل لون السينما الإيرانية مختلفاً عن غيرها". تتابع "يركّز المتابع على المواضيع المختلفة.. على زوايا الطرح وطريقة التصوير وصوت الموسيقى، أكثر من اعتبارهم أن الحجاب قد يشكّل عائقاً في عمل الممثّلات. علينا أن نركّز على المواضيع ونحوّل ما يعتبره بعضهم قيوداً إلى مميّزات تجعل المرأة نفسها في السينما الإيرانية مختلفة عن غيرها".
إلى جانب اشتغالها داخل إيران، خاضت درخشنده تجارب خارج حدود بلدها؛ فأنتجت فيلم "عشق بدون مرز"، الذي يعني بالعربية "حب بلا حدود" في أميركا. كذلك، تعاونت مع سينمائيين من الهند في فيلم آخر. تقول "تلك الأعمال تنطبق عليها صفة السهل الممتنع.
قد لا تتوفّر الكثير من الإمكانيات ولا تكون الميزانية الخاصّة بإنتاج الفيلم مناسبةً، لكنها كانت تجارب إيجابية من حيث دقّة العمل وسرعته وتنظيمه. كمخرجة إيرانية، أعتقد أن التعاون مع زملاء في الخارج يساعدني في إيصال الرسالة التي أعمل عليها، ويسمح بتقديم سينما المرأة الإيرانية في الوقت نفسه".
عن اشتغالاتها الجديدة، تقول "ما زلت أركّز على قضايا الإنسان. حالياً، تشغل بالي قضية اللاجئين الفارّين من نيران الحروب في المنطقة، والذين يقرّرون خوض عباب البحر للتوجّه نحو المجهول الذي ينتظرهم. أخطّط، الآن، لإنتاج وثائقي عن حالات اللجوء المتزايدة، أركّز فيه على الجوانب الإنسانية في قصصهم المختلفة".
وتتابع "كما أني أحضّر لإخراج عمل آخر عن الطلاق في إيران، لم أحدّد عنوانه بعد. المهم بالنسبة إليّ هو التطرّق إلى مواضيع من هذا النوع، كونها تلقى استحسان المتلقّي الذي يحب مشاهدة مشكلاته وقضاياه اليومية. لكن هذا لا يكفي طبعاً، إذ عليَّ أن أصنع شيئاً مختلفاً، مع تقديم صورة حقيقية قد تساعد بشكل ما في علاج المشكلة".
تستحضر درخشنده بداياتها مع الأفلام الوثائقية التي تقول إنها كانت أقرب إلى الواقع، كونها "تصوّر الأمور على حالها". من هنا تفتح على سؤال الوثائقي في إيران، قائلةً إن وضعه ليس هو نفسه وضع السينما بشكل عام: "يحتاج الوثائقي، ربّما، إلى وقت ليحقّق ما حقّقته صناعة السينما الإيرانية.
هناك صانعو أفلام كثيرون، وبعضهم تميّز بأعماله الوثائقية. ومع هذا، يجب تركيز العمل أكثر في هذا المجال الذي يسمح بتقديم صور واقعية وصادقة عن المجتمع الإيراني بطريقة جمالية. السينما تبقى الأكثر تأثيراً، كونها تقدّم قضايا الشارع وتتطوّر بتطوّر واختلاف هذه القضايا".
اقرأ أيضاً: "محمد رسول الله" من زاوية أخرى