بوتين يتسلّق المدخنة

03 ديسمبر 2015
+ الخط -
قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي بنحو سنتين، قُيّض لي أن أشارك ضمن وفد من منظمة التحرير الفلسطينية في زيارة إلى العاصمة الأفغانية، كابول، التي كانت توشك على بلوغ نهاية عهد الدكتور محمد نجيب الله، آخر رؤساء البلاد الشيوعيين الذي آلت به الحال، بعد ما يقرب من أربع سنوات تقريباً، إلى سقوط نظام حكمه، ولجوئه إلى مكتب هيئة الأمم المتحدة، ثم إلقاء حركة طالبان القبض عليه، وإعدامه وأحد أشقائه شنقاً، بشريط معدني، على أحد أعمدة الكهرباء عام 1996.
كنت، حينئذٍ، في مقتبل حياتي المهنية، وقد نشطت على مدى الأيام السبعة التي أمضيتها هناك، في إعداد مواد صحافية متنوّعة عن حال بلاد رزحت سنوات طويلة تحت صراع دموي مدمر بين نظامها الشيوعي المدعوم بتدخل عسكري هائل من الاتحاد السوفييتي و"قوى الجهاد" المدعومة، في المقابل، من الولايات المتحدة الأميركية، وحلفائها العرب، فأجريت حواراً مع نجيب الله نفسه، وقابلت مسؤولين حكوميين ونقابيين، كما استطلعت آراء طلاب فلسطينيين فوجئت بوجودهم يدرسون في جامعة كابول، بينما لم يكن ممكناً، في ظل تلك الظروف، لقاء أيٍ من ممثلي قوى المعارضة المسلحة.
وعلى الرغم من تراكم غبار النسيان على الكثير من تفاصيل الزيارة، بعدما مر عليها، اليوم، أكثر من ربع قرن، فإن ما لن أنساه أبداً أسلوب هبوط الطائرة الروسية (نعم، الطائرة الروسية) التي نقلتنا من موسكو إلى كابول، ثم طريقة صعودها. ففي نهاية رحلة الذهاب، انتبه الرُكَّاب إلى أن الطائرة تكرّر دورانها في محيط فضائي ضيّق، ولوقت طويل نسبياً، فوق المطار، وحين استوضح بعضهم عمّا يحدث، تهرّب طاقم المضيفين من الجواب، إلى أن حانت لحظة الهبوط بسلام، وجاء مساعد الطيار، فأوضح أن خطر صواريخ "ستينغر" الأميركية الصنع التي يمتلكها "المجاهدون" في محيط العاصمة الأفغانية يحول دون الهبوط التدريجي المعتاد، ويفرض على قائد الطائرة مواصلة التحليق بها على ارتفاع يزيد عن سبعة كيلومترات، إلى أن تصير على مستوى المدرج تماماً، حيث تبدأ بالهبوط وفق طريقة يسمونها "تسلّق المدخنة"، وكذا الأمر أيضاً عند الإقلاع، إذ تصعد لولبياً، كأنها داخل أنبوب دائري، ولا تتجه أفقياً، إلا بعد أن تعلو فوق مدى مضادات الطائرات.
لماذا أروي هذه النتف من الذكريات، الآن؟ هو سؤال ربما لا يحتاج جواباً، أمام تقدّم أخبار الطائرات الروسية لتتصدّر واجهة الأحداث، منذ تحطم واحدة منها، مدنية، فوق صحراء سيناء، في نهاية شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وحتى ما بعد إسقاط أخرى، حربية، بنيران تركية، عند الحدود الشمالية لسورية، في الرابع والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت. لكن جواباً تلقائياً، كذاك، لا يغني عن القول إن الحادثة الأولى، بما أثارته من تعاطف إنساني مع الضحايا الأبرياء، والثانية بما انطوت عليه من كسر هيبة القوة الروسية، ليستا في منأى عن الدرس الأفغاني القاسي والبليغ. هنا، تأني موسكو بطائراتها وأسلحتها، لتنقذ نظاماً ديكتاتورياً متداعياً، وقتل مئات الألوف من شعبه، مثلما ذهبت، هناك، بجيوش جرارة، لتمنع سقوط نظام حكم عميل لها. هنا، أيضاً يدفع الروس، في أيامنا هذه، عربوناً أوليّاً من ثمن تدخلهم العسكري المباشر في سورية، بعد ثمن باهظ دفعوه، هناك، في ثمانينات القرن الماضي، ليؤدي مع عوامل أخرى، إلى انهيار إحدى أكبر إمبراطورياتهم عبر التاريخ، الاتحاد السوفييتي.
ولن يُغيّر في هذا الدرس شيئاً أن أميركا تحول دون امتلاك المعارضين السوريين صواريخ أرض جو، كما لن تنفع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، شخصية "بلطجي المجتمع الدولي"، لأن السوريين، ببساطة، بل أهل هذه المنطقة عموماً، لا يقلون اعتداداً بكرامتهم عن الأفغان، وها هي الحرب الضروس تضطره، وطائراته، إلى بدء "تسلّق المدخنة"، إيذاناً بهزيمته في سورية، وترك حليفه بشار الأسد، لمصيرٍ يشبه مصير نجيب الله.
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني