"لن أقبل أن أكون ربع رئيس"، هكذا رد الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، في خضم حملته الانتخابية، في أبريل/نيسان 1999، على سؤال وُجّه إليه بشأن إمكانية تدخُّل الجيش في صلاحياته كرئيس في حال فوزه بالرئاسة. وكان واضحاً حينها أن بوتفليقة، وزير الخارجية الجزائري الأسبق وأبرز الدبلوماسيين الجزائريين ورفيق الرئيس الراحل، هواري بومدين، يستعد منذ عهده الرئاسي الأول، لمعركة سياسية ضد العقل المسيّر للمؤسسة العسكرية والمتدخّل في الشأن السياسي، جهاز الاستخبارات.
ولم تمر سنوات ولايته الرئاسية الأولى، حتى كان بوتفليقة قد أنهى مهام أبرز ثلاث شخصيات عسكرية مؤثرة في القرار السياسي، وهي قائد أركان الجيش، محمد العماري، ووزير الدفاع السابق، خالد نزار، والجنرال العربي بلخير، والأخير ألحقه الرئيس بديوانه ثم أرسله سفيراً إلى المغرب. لكن بوتفليقة أجّل مواجهة قيادة جهاز الاستخبارات والرجل القوي فيها، محمد مدين، المعروف بالجنرال توفيق، إلى الفترات اللاحقة.
قبل ذلك كان اسم بوتفليقة قد اقتُرح من قيادات الجيش لترؤس الدولة، في ندوة الوفاق الوطني التي عُقدت، في ديسمبر/كانون الأول 1994، والتي خُصصت لاختيار رئيس للدولة بعد انتهاء الفترة المحددة للمجلس الأعلى للدولة الذي خلف الرئيس الشاذلي بن جديد عقب استقالة الأخير بعد انقلاب الجيش، في يناير/كانون الثاني 1992، وتوقيفه المسار الانتخابي على خلفية فوز الإسلاميين بالانتخابات التشريعية. لكن مطالبة بوتفليقة حينها الجيش بمنحه كامل السلطة والصلاحيات، حال دون وصوله إلى رئاسة الدولة، وتأجل ذلك خمسة أعوام أخرى، حتى انتخابات عام 1999.
اقرأ أيضاً: الجزائر تغرق في فضائح الفساد: صراع بوتفليقة والاستخبارات
استرجاع هذه الأحداث التاريخية يتيح فهمَ بعضٍ من حدود العلاقة بين بوتفليقة والمؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات، ويوضح الأسباب التي دفعت الرئيس الجزائري إلى إعلان موقفه الحاد والحازم من المؤسسة العسكرية في حال فوزه بانتخابات الرئاسة عام 1999. فقبل نحو عشرين عاماً من ذلك التاريخ، في ديسمبر/كانون الأول 1978، تُوفي الرئيس الجزائري هواري بومدين، وكان بوتفليقة رجله الأول والرجل القوي في النظام حينها. وبسبب علاقاته القوية دولياً التي اكتسبها بقيادته الدبلوماسية الجزائرية مدة 15 عاماً، كان بوتفليقة بثقافته السياسية، أيضاً، المرشح الأبرز لخلافة بومدين، وبدا أن الطريق إلى قصر المرادية مفتوحاً أمامه، لكن زعيم الحزب الحاكم "جبهة التحرير الوطني" حينها محمد الصالح يحياوي، ظهر منافساً قوياً لبوتفليقة، وصارعه على منصب الرئاسة، خلال فترة الـ40 يوماً، التي ينصّ الدستور، أن تفصل بين وفاة الرئيس واختيار رئيس جديد للبلاد.
إلا أن جهاز الاستخبارات الذي كان يقوده قاصدي مرباح، وكان يُحكم قبضته على كل نواحي الحياة السياسية والأمنية، اتخذ قراراً آخر، يقضي الدفع بأكبر عقيد في الجيش حينها، الشاذلي بن جديد، إلى سدة الرئاسة، وهو ما حدث بالفعل عام 1979، وبالتالي بقي الحكم في إطار المؤسسة العسكرية، ولم يتم منح فرصة للسياسيَين بوتفليقة ويحياوي، لأخذ زمام السلطة.
بعد تلك الحادثة ابتعد بوتفليقة نهائياً عن المشهد السياسي ودخل في مرحلة المنفى السياسي، ويعترف بوتفليقة نفسه في إحدى خطبه التي ألقاها في مؤتمر تاريخي عن حياة بومدين عام 1999، أن "التأبين الذي ألقيته في جنازة الرئيس الراحل، هواري بومدين، في ديسمبر/كانون الأول 1978، كان بالنسبة لمن يفقه في السياسة خطبة توديع للسياسة أيضاً".
شكّلت حادثة إبعاد وإزاحة الاستخبارات الجزائرية بوتفليقة بالنسبة له، عقدة مزمنة تجاه المؤسسة العسكرية وجهاز الاستخبارات بشكل خاص، وظهرت ملامح الخلاف بين بوتفليقة والاستخبارات منذ الانتخابات الرئاسية في عام 2004، عندما حاول جناح في الاستخبارات والمؤسسة العسكرية الدفع برئيس حكومة بوتفليقة ورئيس ديوانه في الرئاسة علي بن فليس، لمنافسته في تلك الانتخابات وقطع الطريق على بوتفليقة الذي كان يتوجّه لولايته الرئاسية الثانية.
اقرأ أيضاً: 13 حكومة في عهد بوتفليقة بلا إنجازات