بنغازي المنكوبة: خريطة النيران في مهد الثورة الليبية

20 نوفمبر 2014
لم يتمكن أحد الطرفين من حسم الصراع لصالحه(فرانس برس)
+ الخط -
تشهد مدينة بنغازي في الفترة الأخيرة، موجة غير مسبوقة، من المواجهات المسلّحة وعمليات القتل والخطف، وإطلاق الرصاص والقذائف التي تتساقط بشكل عشوائي على رؤوس المدنيين. ويعيش أهالي المدينة حالة من الخوف والهلع، في ظل تكرار اقتحام المنازل وحرقها وهدمها، وإغلاق المستشفيات والمحال التجاريّة ومحطات البنزين، إضافة إلى المدارس والجامعات والمصارف.
ويؤدي هذا الوضع إلى حالة من النزوح الجماعي لآلاف الأسر، مع استمرار الانقطاع المتواصل لخدمات الاتصالات والكهرباء وتكوّم النفايات في الشوارع والطرق، في وقت باتت فيه مداخل المدينة ومخارجها مغلقة.
وفي حين يخيّم شبح نفاد المواد الغذائيّة في أي وقت، يعيش الأهالي الذين ما زالوا في المدينة أوضاعاً إنسانية بالغة الصعوبة والتعقيد، وسط حالة من الهلع الدائم من سقوط قذيفة أو رصاصة عشوائيّة، تهدم منازلهم فوق رؤوسهم. ولم تتأخر الهيئة الليبية للإغاثة والمساعدات الإنسانيّة، والهلال الأحمر الليبي، في المدينة، عن إعلان حالة الطوارئ الداخليّة في صفوف المنتسبين إلى صفوفهما، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإخراج العالقين من الأهالي، وخصوصاً من أماكن الاشتباكات.

تعود بداية الأزمة إلى الخامس عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين اشتد القتال بين قوات مجلس "شورى ثوار بنغازي" ومسلحين مدنيين موالين لهم من جهة، وبين قوات اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، ومسلحين موالين، تُطلق عليهم تسمية "الصحوات"، من جهة أخرى. ومع إعلان حفتر، في اليوم ذاته، "انتفاضة مسلحة" في بنغازي لمهاجمة مقرات ومعسكرات مجلس "شورى ثوار بنغازي"، بهدف إخراجهم منها وتمهيد الطريق أمام قواته لبسط سيطرتهم الكاملة، تزداد أوضاع المدينة سوءاً. وفيما استبق مجلس "شورى ثوار بنغازي" هذا المخطط بالمسارعة، بناء على معلومات استخباراتية تحذيريّة ربّما، إلى توجيه ضربة عسكريّة استهدفت الكتيبتين 204 دبابات و21 صاعقة، المؤيديتين لحفتر.

وتشهد المدينة حاليّاً ما يمكن تسميته بـ"حرب شوارع شرسة"، تُستعمل فيها أنواع الأسلحة كافة، بدءاً من الرصاص وحتى قذائف الدبّابات والمدفعيّة الثقيلة، بحجة أنّ مقاتلي "مجلس الشورى"، يتمركزون داخل هذه الأحياء ويتخذونها قواعد لضرب قوات حفتر. ولا يمكن القول، إن حفتر بسط سيطرته بشكل نهائي على بنغازي، ذلك أنّ مفارز من قواته، ومعها مسلحون مدنيون، يدخلون إلى مناطق معينة، لتصويرها، والقول، إنّ الجيش دخل إلى هذه المنطقة أو تلك، في حين يغلق المدنيون المسلحون، الموالون لحفتر (الصحوات)، الأحياء السكنيّة بشكل تام، ويمنعون أي شخص من الدخول إليها، باستثناء مؤيّدي حفتر أو من قدموا مع قوات الجيش المؤيدة له. ويمكن القول إنّ قوات حفتر باتت تبسط نفوذها على هذه المناطق والأحياء، وهي مساحة ليست ببسيطة، مقارنة مع مساحة المدينة.
وبالتزامن مع العمليّات العسكريّة والمواجهات الدائرة في المدينة، تتولى وحدات حفتر، ومن يساندها من المسلحين المدنيين، الهجوم على منازل المدنيين من الثوار وقياداتهم، ويعمد عناصرها إلى حرقها، وهدم واجهاتها وأجزاء كبيرة منها، بواسطة آليّة "بلدوزر"، ينقلونها معهم من حي إلى آخر، من دون أي اعتبار لحرمة المنازل أو وجود النساء والأطفال فيها. ويؤكّد ناشطون حصول عمليات هدم، راح ضحيتها مدنيون أبرياء. ويوازي التحرّكَ العسكري لقوات حفتر على الأرض، تحركٌ أمني دقيق يتمثل في عمليات التقصي والبحث والرصد وتحديد البيوت وأنواع السيارات وكتابة قوائم المطلوبين.
وتعمد قوات حفتر إلى إغلاق معظم أحياء بنغازي عبر حواجز ترابيّة وهياكل سيارات محروقة ومحطمة، وأحجار كبيرة وبقايا أشجار وأكوام القمامة، لمنع دخول قوات مجلس "شورى الثوار" إلى هذه الأحياء وتنفيذ عمليات مسلّحة تستهدف عناصرها أو الموالين لها، علماً أنّ من يمرّ مترجلاً عبر هذه الأحياء، يمكنه بوضوح رؤية مدنيين، في ثياب عسكريّة ومسلّحين.

وتؤكّد مصادر متابعة، أنّ تحرّكات قوات حفتر على الأرض، تجري بتنسيق وخطط يبدو أنها دقيقة واحترافيّة في العمل الأمني، رسمها ضبّاط جهاز الأمن الداخلي السابقون، الذين قسّموا بنغازي إلى مربّعات، حددوا من خلالها، المستهدفين بعمليات القبض أو من تستهدف بيوتهم بالحرق أو الهدم، لعلاقتهم بمجلس "شورى الثوار" أو بأحد التيارات الإسلامية في المدينة.

ويترافق ذلك مع تداول مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، قوائم بأسماء أعضاء في مجلس شورى الثوار وقياداتهم، ومن تعاطف معهم ودعمهم من تجار ورجال أعمال وشخصيّات وطنية ساندت الثوار ودعمتهم. وتتضمّن القوائم تهديدات بالقتل والحرق والسجن، علماً أنّ من يتمّ القبض عليه، يُرحّل إلى معتقل قرنادة، الذي أقامه حفتر في شرق مدينة البيضاء، وهي من المدن الخاضعة لسيطرته وتشكّل نقطة تجمّع لمناهضيه وخصومه، لا سيّما المنتسبين إلى التيار الإسلامي في ليبيا.

وتدور العمليات العسكرية الرئيسية حاليّاً في منطقة قاريونس، في مساحة تقدّر بأقل من عشرة كيلومترات مربّعة، بين مقاتلي مجلس شورى ثوار بنغازي وقوات الكتيبتين 204 دبابات و21 صاعقة. وتُستخدم في المواجهات مختلف أنواع الأسلحة وسط تغطية جوية من الطائرات الحربيّة التابعة لحفتر، والتي تستهدف أماكن وتجمّعات قوات "مجلس شورى الثوار". والملاحظ في هذه المواجهات، أنّ قوات المجلس ما زالت تحافظ على مقراتها ونقاط تمركزها، التي لم يتمّ إخراجها منها، في حين أن القوات الموالية لحفتر تتراجع بسرعة أحياناً أمام كثافة نيران قوات المجلس، الذين سبق وأن هددوا مرات عدّة بمعاقبة كلّ من يهاجم معسكراتهم أو يستهدف منازل قادتهم أو أحد المقاتلين معهم.
وإلى جانب قاريونس، تنحصر المواجهات العسكريّة الأساسيّة في أحياء طابللينو ولبنان وفينيسيا والفويهات وأرض بن علي وبوهديمة والماجوري الصابري، وسط المدينة.

وفي حين لم يتمكن أحد الطرفين من حسم الصراع لمصلحته، حتّى الآن، يهدف مقاتلو "مجلس شورى الثوار" من وراء هذه الحرب، إلى بسط السيطرة على معسكرات الكتيبتين 204 و21، ذلك أنّ انهيارهما معاً، أو واحدة منهما على الاقلّ، سيسهم بشكل كبير في انهيار الروح القتالية لقوات حفتر داخل الشوارع، وسيدفع المدنيين الموالين له، إلى الهروب خارج المدينة وترك أحيائهم التي سيطروا عليها، تمهيداً لدخول قوات حفتر إلى بنغازي.

يُذكر أنّه جرى العثور مرات كثيرة، تزامناً مع المواجهات، على جثث لقتلى مجهولي الهوية في أنحاء عدة من بنغازي، التي تحوّلت إلى مدينة أشباح وانهار وضعها الأمني بشكل كامل، وتتوقف فيها الحركة مع غروب الشمس لتتحول في المساء إلى ساحة للحرب والقتال وعلميات التفجير والرصاص العشوائي حتى الصباح.
ويزيد تأزم الوضع الحالي واشتداد المواجهات المسلّحة اليومية من معاناة أهالي المدينة، الذين لا تزال الأغلبية الصامتة منهم داخل البيوت، تنتظر انتهاء المواجهات وعودة الحياة الطبيعية إلى المدينة.

دلالات